17-أبريل-2019

تصر فرنسا على تجاهل الانتهاكات التي تسببها أسلحتها في اليمن (Getty)

"سيدتي الوزيرة، سأطرح عليك الآن سؤال محرجًا!"، هكذا توجه منشط إذاعة France Inter ممهدًا لاستفسار طالما تكرر على مسامع فلورانس بارلي، وزيرة الدفاع الفرنسية: ألا يجب علينا أن توقف على بيع السلاح للسعودية؟

تزور ذخائر ختمت عليها عبارة "صنع في فرنسا"،  كل يوم أجساد اليمنيين وبيوتهم، تتعدد وتتنوع، وتكشفها وثائق الاستخبارات العسكرية المسرّبة، فاضحة تناقضًا فجًا في خطاب باريس

سؤال شائك يخلق زخم الرأي العام الفرنسي في الأشهر الأخيرة، وكما تبين تقارير عديدة لا زالت الاحتجاجات قائمة للتنديد بصفقات السلاح الفرنسية مع دول التحالف. بالمقابل، لا زال الإليزيه مصرًا على تعنته، أو متعنتًا في إصراره على أن تكون له يد في المذابح التي تطال الآن أرض اليمن.  وحيث يبقى سؤال المنشط بلا جواب، أو بجواب دبلوماسي ومتملص، خاصة بعد أن أصر متسائلًا: "هل يمكن أن تؤكدي لنا إذا ما كانت الأسلحة الفرنسية تستعمل ضد المدنين هناك؟". الوزيرة تتهرب نافية أدنى معرفة لها بالأمر. وما هي إلا أسابيع قليلة ويأتي الجواب، هذه المرة بشكل مؤكد، وبدلائل دامغة، في وثائق سرية عسكرية مسربة.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون في القاهرة.. حقوق الإنسان غائبة أمام صفقات التسليح

التقرير الذي تلقته منظمة Disclose  الأهلية ونشرته على موقعها الرسمي، وهو تقرير يصنف في خانة الأسرار العسكرية، يقع في 15 صفحة معدة من طرف الاستخبارات العسكرية الفرنسية، موجه أساسًا لمكتب الرئيس إيمانويل ماكرون ووزيرا دفاعه وخارجيته. يجرد كل الأسلحة الفرنسية التي بيعت للسعودية، كما يحدد طوبوغرافيًا مواطن استعمالاتها على خريطة اليمن.

أسلحة وخرائط

أسلحة ختمت عليها عبارة "Made In France"، تزور كل يوم أجساد اليمنيين وبيوتهم، تتعدد وتتنوع، وتكشفها وثائق الاستخبارات العسكرية المسرّبة. منها على سبيل المثال؛ مدفع Caesar، والذي استوردت منه السعودية ما لا يقل عن 132 قطعة منذ سنة 2010، حسب مؤسسة Sipri المتخصصة في رصد تجارة الأسلحة.

ببحث بسيط في محرك Google يمكن أن يعرف المتابع عن كون هذا المدفع صناعة فرنسية خالصة، وأن يكوّن كذلك صورة عن قوته التدميرية. بحركية سلسة، دائرة استهداف قطرها 42 كم وسرعة ستة قذائف في الدقيقة، يعتبر هذا المدفع وحش صناعة السلاح الفرنسية.

عودة إلى الوثائق المسربة، تؤكد هذه الأخيرة اشتراك 48 قطعة مدفعية Caesar في المعارك باليمن، تغطي فوهاتها مناطق رئيسية: الشمال والشمال الغربي. وكما توضح خرائط التقرير، كون المناطق المستهدفة مأهولة بكثافة سكانية كبيرة، تتمركز على وسع تلك الأراضي في قرى ومراكز حضرية.

مناطق تمركز مدفعية Caesar فرنسية الصنع باليمن
المصدر: وثائق استخباراتية فرنسية نقلا عن موقع Disclose

بعبارة واضحة يلخص التقرير الاستخباراتي دور مدفع Caesar في الحرب، قائلًا إنه بمثابة دعم لقوات هادي والقوات السعودية في تقدمها على الأرض. بشكل أوضح تتلخص في دك كل المعيقات، وكشح الطريق أمام تقدم قوات التحالف السعودي. كما يوضح نص التسريبات أيضًا "أن الساكنة المستهدفة بضربات هذا السلاح: 437 ألف شخص".

لكن هل Caesar هو السلاح الفرنسي الوحيد المستخدم في تذبيح اليمنيين؟ يطرح كاتب تحقيق Disclose سؤاله، هذه المرة يجيب مكتب رئاسة الحكومة الفرنسي: "على حد علمنا، الأسلحة الفرنسية في يد قوات التحالف تستخدم في وضعيات دفاعية".

جواب يناقض معطيات الأوراق الاستخباراتية المسربة، والتي تصف بدورها توفر قوات التحالف على 70 دبابة قتالية نوع Leclerc، متمركزة أساسًا على الساحل الشرقي للبلاد داخل قاعدتين إماراتيتين. "هذه الدبابات لا يجب أن تظهر أبدًا في الخطوط الأمامية!"، تقول الأوراق الاستخباراتية المسربة، بيد أن تحقيق Disclose يثبت العكس. بعد تحليل صور الأقمار الصناعية والتقارير الإعلامية، يخلص المحقق الصحفي أن قطع Leclerc غادرت قواعدها في الفترة ما بين حزيران/يونيو وكانون الأول/ديسمبر من سنة 2018، مشاركة لأغراض هجومية على الخطوط الأولى من معارك الحديدة في أقصى الشمال الغربي. الشيء الذي وثقته الخرائط المسربة، كما شهدت عليه صور الأقمار الاصطناعية ومقاطع فيديو صورها المدنيون.

مناطق مشاركة دبابات Leclerc في عمليات هجومية
المصدر: وثائق استخباراتية فرنسية نقلا عن موقع Disclose

هل تستهدف الأسلحة الفرنسية مدنيين؟

يتتبع تحقيق Disclose خيوط القضية، محللًا المعطيات الإعلامية وتقرير المنظمات غير الحكومية حول اليمن، ومقارنًا إيّاها بما هو مذكور في أوراق الاستخبارات العسكرية المسربة. والنتيجة: من آذار/مارس 2016 إلى كانون الأول/ديسمبر 2018، 35 مدني لقو حتفهم و52 جريح داخل نطاق استهداف مدفعية Caesar الفرنسية بيد القوات السعودية.

في حين تورد تقارير منظمة ACLED، وهي منظمة إنسانية تشتغل بتوثيق الضحايا المدنيين خلال الحروب، سقوط طفلين سنة 2018 تحت القصف المدفعي السعودي لقرية بني فايد، في مقاطعة ميدي شمال غرب اليمن، وهي القرية والمقاطعة الواقعة بدورها تحت مجال قصف المدفعية الفرنسية Caesar، كما ورد في الأوراق الاستخباراتية المسربة. 

وفي الـ 25 آب/أغسطس من نفس السنة، استهدفت مدفعية القوات السعودية مرة أخرى مركز مدينة حرض (22000 نسمة)، في مشهد مأساوي. بيوت تهوي فوق رؤوس أصحابها ومدنيون يجمعون موتاهم. مجددًا، بمقارنة موقع المدينة والخرائط الاستخباراتية المسربة، يتأكد لنا باليقين أن القذائف كانت تنطلق من مدفع Caesar. كذلك في 28 نيسان/أبريل من ذات السنة، تم رشق مدينة المزرق بذات المدافع، لتسقط بعدها عددًا من الجرحى المدنيين، وتنسف البنية التحتية للمدينة.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2018، وبينما كانت الدبابات الفرنسية Leclerc تقود الهجوم على الحديدة، سقط في ذات المواجهات ما لا يقل عن 55 مدنيًا، حسب تقرير ACLED.

الضربات الأكثر فتكًا

غير أن الضربات الأكثر فتكًا في المدنيين هي التي ينفذها طيران التحالف، يقول تحقيق Disclose، مضيفًا أن التقرير الاستخباراتي المسرب يشير إلى أنه: "منذ اندلاع الحرب سنة 2015 شنت قوات التحالف حملات جوية كثيفة ومتتابعة. دكت بها رؤوس اليمنيين بما يزيد عن 24000 قنبلة، 6000 منها فقط في سنة 2018".

في 13 شباط/فبراير الماضي، صرح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان: "إننا لا نورد شيئًا لسلاح الجو السعودي". كان وقتها يكذب، يقول تحقيق المنظمة الصحفية، وما يكذبه هو التقرير المسرب إذ يتحدث عن تزويد الطيران السعودي بأحد درر صناعة السلاح الفرنسية: جراب الاستهداف ديموقليس. وهو قطعة عسكرية من الجيل الثالث عالية التكنولوجيا، مهمتها تمكين الطيار من توجيه القنابل الذكية لتصل أهدافها المنشودة. بما فيها صاروخ Raytheon الأمريكي الذي، وحسب تقرير لـ CNN، استخدم في قصف سنة 2016 راح ضحيته 12 طفلًا.

كما تحوي الطائرات الإماراتية من طراز Mirage 2000-9 فرنسية الصنع هذا الجراب كذلك، تقول الاستخبارات العسكرية الفرنسية. تستعملها خلال عملياتها في اليمن، مع ترسانة صاروخية تتنوع بين: الصواريخ الموجهة Black Shaheen ذات الصناعة الفرنسية البريطانية، وصواريخ AASM للمصنع الفرنسي Safran. كما تتوفر الإمارات على 62 طائرة من طراز Mirage 2000-9، حسب ما تقول تقارير مؤسسة Sipri.

في حين تؤكد التقارير الاستخباراتية الفرنسية: أن الغارات الجوية لقوات التحالف في اليمن، أودت بأرواح ما يزيد عن 8300 مدني، منذ اندلاع النزاع سنة 2015. كما توضح كذلك مشاركة طيارين فرنسيين في مهمات خلال الحرب باليمن، انطلاقًا من قاعدة العساب الإماراتية المتمركزة في إريتريا، الشيء الذي تتستر عليه الحكومة الفرنسية كذلك.

الدور الفرنسي في تجويع اليمنيين

منذ ضرب الحصار على اليمن، ربيع سنة 2015، وقوات التحالف تضيق الخناق على كل الواردات لتلك الأرض. بذريعة منع تسرب السلاح إلى أيدي قوات الحوثي. لكن في الحقيقة، وكما يبين تقرير Disclose، فهي تمنع حتى وصول المساعدات الإنسانية للشعب المحاصر. سكر، أرز، محروقات وأدوية هي مواد أساسية لعيش أي إنسان، تتحول إلى أداة حرب في يد التحالف إذ يطبق الخناق على وارداتها، مسببًا كارثة إنسانية عنوانها العريض هو الجوع.

هذا التجويع الممنهج لـ 20 مليون بشري من أهل اليمن، والذي ما فتئت الأمم المتحدة ومنظمة غوث اللاجئين التابعة لها تدقَّ ناقوس الخطر حوله، مؤكدة ضرورة رفعه الفوري، لا يستثنى من تورط التسليح الفرنسي فيه. حيث تبين ذات البيانات الاستخباراتية، استخدام بارجتين حربيتين من طراز Gowind 2500 ذات تصنيع فرنسي في ضرب الحصار البحري على سواحل اليمن؛ الفرقاطة السعودية مكة، والكورفيت حاملة الصواريخ الإماراتية بينونة.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا أثار "ملف خاشقجي" قلق إسرائيل على السعودية؟

هذا وبرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صفقات السلاح البحري مع دول التحالف في خطابه، في أبوظبي ذات تشرين الثاني/نوفمبر 2017، قائلًا: "إن هذه الصفقة تأتي في إطار تدعيم علاقتنا الملاحية، كما تتمم تعاوننا القوي فيما يخص قطاع التسليح عمومًا". المصالح الاقتصادية الفرنسية تصيب الدولة بحالة فصامية، يصف تقرير المنظمة الصحفية. حيث تعد فرنسا ثالث أكبر مصدر للأسلحة في العالم، والسعودية والإمارات ثالث وسادس أكبر زبون لها.

يحدث ذلك رغم أن فرنسا وقعت على المعاهدة الدولية لتجارة السلاح ATT، والتي تلزم الدول المصدرة للسلاح بتتبع صادراتها، وضمان أن لا تخرق هذه الصادرات الحظر الدولي لهذه التجارة، أو أن تستغل هذه الصادرات في جرائم ضد حقوق الإنسان، بما فيها الإرهاب.

تساهم فرنسا في التجويع الممنهج لـ 20 مليون يمني، ليضاف إلى تورطها المعمق في تسليح حرب السعودية والإمارات في اليمن

يندرج ما تظهره وثائق الاستخبارات العسكرية الفرنسية المسربة تحت خانة الأمر غير المتاح بالدقة اللازمة، معللة ذلك بعدم قدرة أجهزتها على توطين كل العتاد العسكري فرنسي الصنع على أرض الحرب اليمنية، تاركة الحكومة الفرنسية أمام وضع محرج، مفضلة مصلحتها الاقتصادية على احترام الشرط الإنساني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اليمن على حافة المجاعة.. التحالف السعودي يحول البلاد إلى مقبرة

آخر جرائم السعودية في اليمن.. تهجير قسري لأكثر من 121 ألف مدني من الحديدة