08-أغسطس-2023
حروفية لـ أغيغي بخشيشي/ إيران

حروفية لـ أغيغي بخشيشي/ إيران

يعتبر المرحوم الأستاذ محمود شاكر (1909 – 1997) الدين، بمعناه العام، رأس كل ثقافة. وفي كتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" يصف الثقافة بأنها: "سرٌّ من الأسرار الملثّمة في كلِّ أمةٍ من الأمم وفي كل جيل من البشر. وهي (...) معارف كثيرة لا تحصى (...) مطلوبة في كل مجتمع إنساني للإيمان بها أوّلًا عن طريق العقل والقلب = ثم للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به = ثم للانتماء إليها بعقله وقلبه وخياله انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار، وتحوطه ويحوطها حتى لا يُفضي إلى مفاوز الضياع والهلاك".

واعتبر الدين، أو ما يقوم في محله: "كابحًا لجموح النفس الإنسانية (...) [يتغلغل] إلى أغوار النفس تغلغلًا يجعل صاحبها قادرًا على ضبط الأهواء الجائرة، ومريدًا لهذا الضبط". وعلى هذا ينبني "الأصل الأخلاقي" الذي: "يمكِّن لثقافة الأمة بمعناها الشامل، أن تبقى متماسكة مترابطة تزداد على الأيّام تماسُكًا وترابطًا، بقدر ما يكون في هذا الأصل من الوضوح والشمول والتغلغل والسيطرة على نفوس أهلها جميعًا."[1]

اتسعت رقعة مفهوم الثقافة اتساعًا كبيرًا جعل من مهمة الإحاطة به قاصرة مهما كان الجهد المبذول في هذه المهمة جليلًا

لقد أطلت في الاقتباس عن كلام المرحوم لفرادته في معنى الثقافة، ودورها في حياة الشعوب. لكن ما أصل مثل هذه التصورات عن الثقافة؟ وكيف تشكلت؟ أحاول في هذا المقال تقديم مدخل لفهم الجذور والمراحل التي عملت على تكوين وتشكيل مفهوم الثقافة بالشكل الذي استقرت عليه المفاهيم المعاصرة. فكثيرًا ما نسمع هذه اللفظة، ولكنك تشعر أحيانًا بأنك قادر، تقريبًا، على استخدامها في وصف كل شيء.

ولكي نبدأ في هذه العملية التي يعرف الدارسون في العلوم الاجتماعية مدى صعوبتها، علينا تقرير الإشكال العويص الذي يعتري مفهوم الثقافة. يرى المشتغلون في هذه الحقول أن هذا الإشكال غير قابلٍ للحل الجذري، وذلك لأن رقعة مفهوم الثقافة اتسعت اتساعًا كبيرًا، بما يجعل من مهمة الإحاطة به قاصرة، مهما كان الجهد المبذول في هذه المهمة جليلًا. وجل ما يمكن فعله هو مقاربته مقاربةً جزئية تحاول لملمة أقصى ما يمكن من أطرافه. فالباحث بطبيعة الحال مضطرٌ إلى تحرير المفاهيم بما يجعله قادرًا على تفعيلها أو تشغيلها في بحثه.

يقول ديفيد ماتسوموتو عن اتساع مفهوم الثقافة وصعوبة تحديده: "على مدى سنوات سعى العلماء جاهدين إلى تعريف مصطلح (الثقافة)، ونظرًا لاتساع هذا المصطلح فليس من المستغرب وضع العديد من تعريفات الثقافة في كل حين".[2] ومما يزيد الخلط في استيعاب المفهوم هو تداخله، وأحيانًا تطابقه وفقًا لفهم البعض الخاطئ، مع مفاهيم أخرى مثل: التقاليد، الحضارة، العادات، الأسطورة، تصور العالم، الخطاب، الأيديولوجيا.[3]

قد يكون من المفيد بدأ المقال بتتبع الجذور الإيتمولوجية للفظة التي بُني عليها فيما بعد مفهوم الثقافة. ووفقًا لرايموند ويليامز[4]، تعود جذور مفهوم الثقافة إلى الكلمتين اللاتينيتين "Colere" و"Cultura"، وتعنيان بشكلٍ أساسي "نزعة النمو الطبيعية". ومع التمطيط المجازي للكلمتين أصبحتا تشيران إلى تطور البشرية الفكري والأخلاقي. أيضًا، كان مفهوم "cultivation"، أو ما يمكن ترجمة معناه المراد في ذلك الوقت بالتهذيب والتنمية والصقل، والمرتبط بمفهوم ألماني آخر يُدعى "Bildung"؛ يعني النمو والتطور الروحي والشخصي.

وعمومًا، استخدمت الكلمة في البدايات بشكلٍ تبادلي مع كلمة الحضارة "civilization" حتى بدأ بعض الكتّاب المؤثرين، وعلى رأسهم الشاعر والناقد والأستاذ ماثيو أرنولد، يشيرون إلى أن مفهوم الثقافة يعني ما فقده الإنسان بفعل تقدم الحضارة الصناعية.[5] وبدأ علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع، شيئًا فشيئًا، بالتعامل مع مفهوم الثقافة باعتباره مقابلًا لكلمة الحضارة، وذلك بعدما اعتبروا أن أنماط الحياة الحديثة، التي تنطوي على النزعات الاستهلاكية والتصنيعية والعقلانية العلموية والاقتصادية، جاءت لتدوم وتبقى.

أما في إطار علم الاجتماع الأنجلو أمريكاني "Anglo-American"[6]، ظهر ما يُعرف بالفلكلور والعادات، التي أصبحت مدخلًا على يد إيفين سومر في فهم الفعل البشري. ولحِقَها في الظهور مفاهيم تصنيفية أخرى، مثل الطبقة الاجتماعية، والأقليات العرقية، والطوائف الدينية، والمجموعات اليافعة، باعتبارها ثقافات فرعية "subcultures"، أو ثقافات مضادة "counter-cultures".

ستبقى إشكالية الثقافة باعتبارها واحدة من أبرزهم المفاهيم المعقدة لعنةً ترافق البحوث الاجتماعية وما يرافقها عادةً من مناهج التنظير المعرفي والوجودي

ويرى مارتن هارميرسلي أن أول ظهور لمصطلح الثقافة الفرعية يرجع إلى حقل الدرسات الأنثروبولوجية، وينقل عن رالف لنتون مؤلف كتاب "دراسة الإنسان"[7]: "اعتاد علماء الإثنولوجيا[8] التحدث عن القبائل والقوميات باعتبارها الوحدات الأساسية التي تنبني عليها الثقافة، لكن الحقيقة أن الثقافة الكلية لمجتمع ما هي حصيلة مجموعة من الثقافات الفرعية". وعلى الرغم من ظهور مفهوم الثقافة الفرعية لأول مرة في كنف الأنثروبولوجيا، إلا أن علماء الاجتماع هم من أولوا هذا المفهوم عنايةً خاصة وقاموا بتطويره وتهذيبه.

يجدر بنا أيضًا التعريج على ما يُعرف بالدراسات الثقافية، وهو حقل نشأ في ستينيات القرن الماضي، وأصبح يقارع بقية العلوم الاجتماعية في فضاء اشتغالها. ويُمكن تتبع نشأته مع تالكوت بارسونز الذي يرى أن الثقافة تمثل نظامًا منفصلًا عما هو اجتماعي، بحيث تشكل السلوك البشري في ضوء الأهداف والوسائل التي ترتضيها وتحددها الثقافة. وقد تأثر علمي الاجتماع والسياسة بتصورات بارسون، فظهر ما عُرف بعلم الاجتماع الثقافي الذي استخدم أفكار بارسون، ولكن قام أيضًا بنقدها.

وفي الفترة الزمنية نفسها، ظهرت بعض المفاهيم مثل "الثقافة المدنية" و"الثقافة السياسية"، واستُخدمت في شرح استقرار الحكومات. وامتد التأثير حتى ظهر ما اصطلح على تسميته بعلم اجتماع المنظمات وحقل الدراسات الإدراية، الذي صك مفهومًا أصبح شائع الاستخدام فيما بعد يُعرف بـ"ثقافة المنظمات"[9]. وقد انتقل المفهوم فيما بعد لحيز الاستخدام اليومي، ومن أمثلة ذلك ما يدرج عند الناس في وصف الأزمات التي تواجه بعض المنظمات بأنها أزمة "ثقافية"، ولذلك تحتاج هذه المنظمة لتغييرٍ ثقافي لمجابهة أزمتها.

أسهم هذا التنوع في أنثروبولوجيا القرن العشرين، ولدى بعض علماء الاجتماع الأمريكيين، وفي أوساط الدراسات الثقافية، في نشوء تصور شديد الاتساع عن مفهوم الثقافة باعتباره أداة لتوليد المعاني، بحيث يدرس الباحثون وفقًا لهذا التصور الوسائل التي يتعقل عبرها الناس ويضفون على ما يختبرونه أهميته الخاصة. وغالبًا ما تم التعامل مع الثقافة بوصفها أداةً لتوليد المعاني باعتبارها عمليةً غير واعية مثل عملية استخدام اللغة. ودار النقاش في الأوساط العلمية عما إذا ما كانت الثقافة عملية تنطوي ضمنها العمليات التي تتسم بطابع مادي مثل التطور الاقتصادي والتقني وممارسة السلطة السياسية. ووفقًا لهذا التصور، تكون الثقافة بمثابة الرحم الذي تخرج منه كل الظواهر الاجتماعية. [10] وتحت هذا التصور يمكن أن يندرج ما أوردته في بداية المقال للمرحوم محمود شاكر عن الثقافة باعتبارها رأسًا للدين.

يجمل مارتن هارميرسلي في أربعة فهوم تنضوي تحتها المعاني التي شاعت عن مفهوم الثقافة على مدار القرنين السابقين. يمكن الاصطلاح على تسمية الفهم الأول بالتهذيب والصقل الجمالي "aesthetic cultivation"، وقد شاع استخدامه في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد كانت كلمة الثقافة تُستخدم باعتبارها كلًا واحدًا متجانسًا، يرتبط بمثل عالمية بشرية. كما استُخدمت أيضًا للإشارة لبعض الأشكال الرفيعة من الأدب والدراما والموسيقى والفن والأفكار التي اعتبرت آنذاك ذات قيمةٍ متفردة، بما يجعلها تلعب دورًا حاسمًا في التطور الاجتماعي الذي ينبني على الفكر والأخلاقيات الفاضلة.

الفهم الثاني هو الفهم الذي يرى الثقافي باعتباره سلمًا ترتقي فيه فئات المجتمع المختلفة، فتكون هناك فئات تمثل مستويات ثقافية أعلى من الأخرى، وبذلك يصبح الثقافي متغيرًا عبر الزمن. شاع هذا الاستخدام لدى أنثروبولوجيي القرن التاسع عشر، وكتابات ماركس وهيجل. [11]

ليست الثقافة علمًا مجردًا واضح الحدود كما نظر إليه العديد من المشتغلين في العلوم الاجتماعية

الفهم الثالث، ظهر في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في القرن العشرين، وشاع استخدامه لدى علماء الاجتماع فيما بعد، ويرى الثقافة نموذجًا فكريًا "paradigm" يحوي كل أشكال الحياة، ولا يقتصر فقط على بعض أنواع الإنتاج البشري من قبيل الأدب والفن والموسيقى. كما يرى أن الثقافة ليست كلًا واحدًا جامدًا، بل مجموعًا يتشكل من ثقافات متعددة، لكل واحدٍ منها منطقها الداخلي المتماسك. وينشأ اختلاف الثقافات بسبب عوامل بيئية أو تبعًا لتمثيلها خواصًا هوياتية متفردة. وقد أنشأ هذا الفهم التعددي تصوراتٍ نسبية عن الثقافي، ترفض الأحكام القيمية المطلقة، وتتعامل مع كل مكون الثقافي في المجتمع على حِدًا.

أما الفهم الرابع الذي يرى الثقافة عمليةً تولد من خلالها المعاني، التي تنتج بدورها هياكل ومؤسسات وأفعال المجتمع، فقد أولى عناية خاصة لخصائص النصوص وأنظمة الإشارة والخطابات والبلاغة. وقد انتشر في حقل الدراسات الثقافية والأنثربولووجيا التفسيرية. [12]

ختامًا ليست الثقافة علمًا مجردًا  واضح الحدود، كما نظر إليه العديد من المشتغلين في العلوم الاجتماعية، في محاولة منهم لاجتراح علمٍ ذو محدادت واضحة قائمٌ بذاته، ومن أهم من ذهبوا في هذا المنحى، العالم الأنثروبولوجي الأمريكي ليزلي وايت، الذي صاغ مصطلح "علم الثقافة" (culturology).[13] لكن تعريف هذا المفهوم سيبقى منقوصًا، وعلينا تجاوز النزعة الحدية في تعريفه، المهيمنة على تفكير المشتغلين في العلوم الصلبة، والتي دائمًا ما تسربت لدى المشتغلين في حقول العلوم الاجتماعية المتنوعة.

وستبقى إشكالية الثقافة باعتبارها واحدة من أبرز المفاهيم المعقدة "nested-concept" لعنة ترافق البحوث الاجتماعية وما يرافقها عادة من مناهج التنظير المعرفي والوجودي.[14] ولذلك سيكون هنك دائمًا تعريفات جديدة تحاول لملمة جنبات هذا المفهوم الشاسعة.


[1] شاكر، محمود محمد. (1987). رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[2] الشهري، عبدالله. (2017). آفاق علمية ورؤى في الثقافة والاجتماع والإدارة واللسانيات وفلسفة المنهج. دار الروافد الثقافية.

[3] Hammersley, M. (2019). The Concept of Culture: A History and Reappraisal. Springer.

[4] Williams, R. (1983). Keywords (2nd ed.). London: Fontana. P. 83.

[5] Hammersley, M. (2019). The Concept of Culture: A History and Reappraisal. Springer.

[6] وهو علم الاجتماع للكتلة الثقافية الناطقة باللغة الإنجليزية، وتشمل الولايات المتحدة وكندا ودول شمال أوروبا.

[7] Linton, R. (1936). The Study of Man. New York: D. Appleton and Co.

[8] تعتبر الإثنولوجيا فرعًا من فروع الدراسات الأنثروبولوجيا، وهي برفقة الإثنوغرافيا أداة لتحليل وتفسير البنى الثقافية.

[9] Smircich, L. (1983). Concepts of Culture and Organisational Analysis. Administrative Science Quarterly, 28, 339–358.

[10] Hammersley, M. (2019). The Concept of Culture: A History and Reappraisal. Springer.

[11] Ibid.

[12] Ibid.

[13]  Anderson, R., 1984. The Superorganic and its Environments in White's Science of Culture. Journal of Anthropological Research , Vol. 40, No. 1, pp. 121-128.

[14]   الشهري، عبدالله. (2017). آفاق علمية ورؤى في الثقافة والاجتماع والإدارة واللسانيات وفلسفة المنهج. دار الروافد الثقافية.