30-يوليو-2023
غلاف كتاب التراثية الجديدة في إسلام الغرب

غلاف كتاب التراثية الجديدة في إسلام الغرب (ألترا صوت)

أفَتَدري ما السعادة؟! إنّها طفولة القَلب"

  • مصطفى صادق الرّافعي. 

حظي مؤخرًا ملاكم كيك بوكسينغ باهتمام خاص لدى بعض المسلمين. لم يكن أندرو تَيْتْ بالخصوص مثقفًا أو صاحب تجربة روحية معتبَرة، بل كان يغمَز في تديّنه لأسباب لا تستعصي على الشيخ غوغل. ولكنّ معجبيه استحسنوا آراءه الدينية. فخلافًا لمن رأوا بالإسلام ضعفًا، نسَبَ تيْتْ له كلّ القوة، وزعم أنّ عدم قبول المسلمين لانتقاد معتقداتهم دليلٌ على صلابة الإسلام مقابل ميوعة الأديان الأخرى، التي يُسخَرُ منها فلا تحرّك ساكنًا. وسرعان ما ذاعت دعاويه بين جمهوره المسلم، الذي أرضاه تحدّيه للناس أن يسخَروا من الإسلام دون أن يتعرّضوا للردع العاجل، مستدِلًا بهذا أن الإسلام هو الدّين الحقّ الوحيد المتبقّي على البسيطة.

في الغرب، يعود توصيف الغرب بالضعف والإسلام بالقوّة على الأقلّ إلى نيتشه. وكان فلاسفة الأنوار استبقوا ذلك عندما نسبوا للإسلام العقلنة على حساب المسيحية. غير أنّ تصوّرات مفكري الغرب عن الإسلام في طور الأنوار والاستشراق إنّما تُفهم في إطار تشكيل الذات الغربية وإنتاجها لخطابات "الأخرنة" و"الاستخلاب". فهي تخبرنا بتواريخ الغرب الفكرية أكثر من حقيقة الإسلام. وفي البداية كانت هذه الأخرنة، كما عند فلاسفة الأنوار، أساسيّة في ممايزة الدّين عن الدولة بنقد المسيحية بالإسلام. ثمّ لاحقًا، وكما بيّن إدوارد سعيد، من خلال الاستشراق، أو ممايزة الشرق، والإسلام خصوصًا، عن العقلانية والعلمانية الغربية. تُبيّن مداخلة سعيد أنّه من الأحسن النظر إلى الخطاب الغربي عن الإسلام في سياقٍ سلطوي يُنتِج علاقة معيّنة للمعرفة بالسلطة. غير أنّ الجديد في الاستشراق، كما في حالة خطاب أندرو تَيْت، أنّه صار نفسه إسلاميًا وصار افتخاريًا بعين القيم التي كان يؤخرَنُ بها. فاعتزاز تَيْت بصلابة الإسلام لا يختلف عن محاججة مانويل الثالث بالاَيْلُوجْ ضد الإسلام القائم بالسيف في القرن الرابع عشر، أو مداخلة البابا بنديكت السادس عشر الشهيرة ضدّ الإسلام في 2006.

نسَبَ أندرو تَيْتْ للإسلام كل القوة، وزعم أن عدم قبول المسلمين لانتقاد معتقداتهم دليلٌ على صلابة الإسلام مقابل ميوعة الأديان الأخرى

ولو كانت دراسات الجندر والبياضة والذكورة، المزدهرة في الأكاديميات العالمية، بنفس فوارها في أكاديمياتنا، لانصرف الدارسون إلى قراءة خطابات تَيْت وما يشاكلها في سياق تحالفات الخطاب الرجولي في الشرق والغرب وتشكّل عولمة لذلك الخطاب يُعبّئ فيها الإسلام. فهو زعم (وشكر) للإسلام قمعًا للمرأة. وليس تعنتُرُه في هذا الإطار غير وجهٍ من عملية أوسع تتطابق فيها المحافظة في الغرب مع الشكيمة الرجولية في أوساط الشباب والدعاة العرب. وقد ظهرت حركة ثقافية عربية محافِظة تقوم أساسًا على الخوف من العواقب العولمية على العلاقات الجنوسية في المجتمع. وتكاد تكون أكثر المصادر الشعبية رواجًا في هذا السياق مترجمة من دعايات اليمين الأميركي وتهويلاته بانقلاب جنوسي وشيك. وسرعان ما أولد هذا هبّةً ثقافية عربية تقوم على نوعٍ من الفتوة والرجولة المقاومِة للميوعة الجنوسية وإبقاء الصلابة الحضارية.

تزدهر أكاديميًا دراسات البياضة "whiteness"، وهي حاضرة في قلب هذا الالتقاء الثيولوجي بين إسلام الشرق والغرب. ولعلّه ما كان لتَيْت أن يشتهِر بهذه السرعة في الأوساط الشبابية العربية، بحيث صار له متعصّبته وغُلاّته على الفضاء الافتراضي، لو لم يكن رجلًا أبيض اعتنق الإسلام. ولهذا علاقة بثنائية الضعف والقوة أعلاه. فمن ناحية، يشغف المعتنِقون بالصلابة المعنوية في الإسلام، والتي لم تعد توجَدُ في الغرب. ومن ناحية أخرى، لو لم يكن بعض المسلمين في ضعف لما استنجد بـ "الذكورة السامة" للسيّد تَيْت. ولعلّ هذه المقولات ليست باختصار غير تعالق المحافِظة شرقًا وغربًا. وإذا كان يُنظر أحيانًا إلى الحِراكات المحافِظة التي تُغالِب اللغة الكونية التحرّرية على أنّها أخلاقيات أصولية أو ريفية تستعصي على العولمة المذوّبة لكلّ القيم، فإنّ هذا المثال وغيره يُظهِر أنّ هذه الحراكات قد صارت نفسها متعولمة.

2

وطبعًا ليس تعولم هذه الحِراكات بالضرورة بجديد، ولا هي يمينية حصرًا. ومؤخّرًا نبّهنا عمل ولاء قويسي "التراثية الجديدة في إسلام الغرب" (2023) إلى وجه مغايِر لهذا الترابط بين الإسلام الأبيض والمشرقي. فقد تعرّفت على انبثاق حركة فكرية وحِلف أيديولوجي بين مسلمي الغرب والشرق الذين تبرّموا من الإسلام السياسي وأصبَحوا يبتغون نهضة فكرية من مخيالٍ مغاير له. سمّت قويسي هذه الحركة بـ"التراثية الجديدة"، ودرَستها من منظور أعلامها من المتكلّمين والدعاة والأكاديميين البيض في الغرب أمثال حمزة يوسف وعبد الحكيم مُراد (تميوثي وينتر) وعمر فاروق عبد الله، وغيرهم ممّن اعتنقوا الإسلام وأصبحوا يقودون فيه معركة حضارية جديدة تُفهم في سياق خلفياتهم البيضاء وبالأخص في نقدهم للحداثة الغربية وفي رؤيتهم الحضارية المتحالفة مع سواد المسلمين.

رأت قويسي في "التراثية الجديدة" مشروعًا سياسيًا يستبدل الإسلام السياسي بمخيال إسلامي جديد. ولكن من السهل قراءة هذه الحركة في سياق التقاء إسلام الغرب بإسلام الشرق والجنوب. وطبعًا فهي لا تُعدّ مع حركة أندرو تَيْتْ، الذكورية والمراهقة والفقيرة فكريًا، وإن كانت الأخيرة تدخل في منطقها بإقامة الإسلام على المخيال الأبيض المحافظ، وبالأخص على صراعات الأقليات المسلمة البرجوازية ضدّ الحداثة الغربية المعيارية. ولا يُخفي عبد الحكيم مراد، مثله مثل تَيْت، اعتزازه باستقلال الإسلام عن إكراهات السياسة والتنازل للعصر، الذي يطبع بقية العقائد. وتقوم آراء هؤلاء الأكاديميين والدعاة المسلمين في نقد الحداثة في أنّها قائمة على فصل عالم الغيب والشهادة. أما قويسي فترى أنّها تفضي بالنسبة لهم إلى مسألتين: 1- نقض الميتافيزيقا و2- نقض الغيب، أو ما سمّاه فيبر بـ"نزع السّحر عن العالم". وقد عثروا في ذلك على التصوّف، الذي سيصّحح نسيان الميتافيزيقا ويُعيد الدهشة المفقودة.

تُنبِئ "التراثية الجديدة" بتعاظم الدور الفكري والأيديولوجي وحتى السياسي لإسلام الغرب سواء كان فتواتيًا رجوليًا كما في حالة تَيْت، أو روحانيًا كما في التراثية الجديدة

ليست التراثية الجديدة مشروعًا غربيًا، بل هي تتجلّى في التحالف مع جماهير وعلماء الإسلام ومفكّريه ذوي التأثير الواسِع كالشيخ عبد الله بن بيّة، صاحب الفكر المقاصدي ومشروع "تعزيز السلِّم"، والذي عمل معه عن كثب حمزة يوسف مثلًا. ولا تُعدّد قويسي دور مفكّر مسلم آخر بارز هو طه عبد الرحمن، الذي، مثله مثلهم (تمامًا كما طارق رمضان) يعيد بناء التصوّف فلسفيًا ويُقيم فلسفة أخلاقية على السلوك باعتباره بديلًا لأخلاق العقل المسدّد والعقل المجرّد، التي تستحكم في المخيال الناقص. ولكنّه تحالف يقوم على تاريخ فكري معولم ينساق في تقاليد النقد الفكري للحداثة (الذي ليس بالضرورة خروجًا من الحداثة) كما في الوشائج ما بعد الحداثية والرومانسية، التي رامت استعادة البراءة والحدس والشاعرية، مع التصوّف الإسلامي، الذي ابتغى "طفولة القلب" والتجربة الربّانية والجمالية. 

ولعلّ تمايز هذا الإسلام التراثي عن الإسلام السياسي يعكس تقابُل نموذجين في التصوّر: أحدُها ينقد الحداثة قانونيًا والآخر ينقدها أخلاقيًا، وعليه ينساق في مشروعِها بأنّها "مشروع غير مكتمل". ولعلّهما ميتافيزيقيتان في الإسلام المعاصر، وإن كانت لهما احتكاكاتهما مع الغرب (فكما يُبيّن دارسو الإسلام السياسي لا تُفصل عقيدته السياسية عن الالتقاء الفكري مع أوروبا الاستعمارية وفترة ما بين الحربين، حيث اتخِذ نموذج التنظيم الشمولي والسرّي والحركة الألوفية وأصبَح نموذجًا إسلاميًا). غير أنّ "التراثية الجديدة" تحقّق مستوىً جديدًا من النقد الميتافيزيقي، الأعمق فلسفيًا من نظيراتها من الموجات الفكرية الدينية، خصوصًا أنّ أقطابها أكاديميون أكثر ألفة بالآداب النظرية والبحثية.

للتراثية الجديدة بعدٌ سلوكي له محور في دراسة قويسي، وهو ممارستهم للخلوة الصوفية، التي يختبرون فيها أنثروبولوجيا جديدة للمقدّس يقاومون فيها الإكراهات السياسيّة والأفق الوضعي الرافض للميتافيزيقا ويعيشون فيها أفق الكرامات والبركات ومقامات الأوليات وحُلل الأصفياء. ويُقال الشيء نفسه عن نظرائهم العرب، كابن بيّة وطه عبد الرحمن. إنّ اكتشافهم تجربة وجودية وروحية جديدة وممارستهم لمفهوم الولاية لتقوم على نقد فكري للحداثة الغربية. فهم يستعيدون "السحّر" باكتشاف حقيقة المِحن والاختلالات وهي أنها امتحانات ربّانية وليست مجرّد سلسلة سببية؛ وبهذا يعيدون جبر الميتافيزيقا المكسورة.  وتُركّز قويسي على نقد حمزة يوسف للحداثة التي يراها قائمة على فكرة ماركسية، وهي خطاب المظلومية ولوم السلطة على الإخفاقات الاجتماعية. وهذا، برأيه، يناقض الفكرة الإسلامية القائمة على المسؤولية، والامتحان الربّاني، والاستبطان والتدبّر والمناجاة. أما زملاءُه، كعبد الحكيم مراد وعمر فاروق عبد الله، فيُقدّمان نقدًا شبيهًا في نسبة تدمير الحداثة للأسرة، وانخرام التوازن الجندري فيها، إلى إخفاق التوازن بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وهو التوازن الذي قامت الحداثة على إفسادِه. إنّهم يجبرون الحداثة بتعالق جديد بين الشرق والغرب.

3

لئن كانت التراثية الجديدة تخاصُب إسلام الشرق والغرب فإنّها ليست في ذلك بدعًا في تاريخ المسلمين. فالتاريخ العثماني كان مليئًا بالقديسين الذين اعتنَقوا الإسلام واستقدَموا إليه خلفياتهم اللاهوتية، سواء كانوا ثوريين معارضين، كما في حالة الشيخ بدر الدّين (1359 – 1420)، أبو ذرّ الإسلام العثماني. أو موالين، كما في حالة شبتاي تسفي (1626 – 1676)، مسيح اليهودية، الذي اعتنَق مع جماعته الإسلام وتحوّلوا لاحقًا إلى يهود الدونمة. وصحيحٌ أنّ اعتناق الدومنة للإسلام لم يسلم من الإكراه وكانوا أقرب في ذلك إلى حالة التفتيش الإسباني، ولكن تعقّد وضعهم اللاهوتي جعلهم قادرين على خلق تقليد لاهوتي إسلامي معيّن ظلّ الكثيرون يفهمون ظهور العلمنة التركية في سياقه، وإن دومًا في قالب مؤامراتي سطحي.

وفي حقبة الالتقاء الاستعماري نرى هذه التخاصبات بين الروافد الشرقية والغربية. بل نلقى كثيرًا غير المسلمين يرومون تغيير الإسلام ثيولوجيًا. فقد اهتمّ اللورد كرومر، الذي كان يقول بأنّ "الإسلام الإصلاحي ليس إسلامًا"، بخلق تقليد إصلاحي إسلامي تجلّى في تحالفه مع محمد عبده (1849 – 1905). وقد ولِدت الإصلاحية الإسلامية المعاصِرة من عدة رغبات متعلّقة بطبيعة الدولة الحديثة وظهور السوق والسلطة الاستعمارية إضافة إلى رغبات التغيير والإصلاح لدى جماهير المسلمين.

وكان لوي ماسينيون (1883 – 1962) من بين هؤلاء الذين راموا تحالفًا دينيًا مع الإسلام وذلك في مشروعه الإبراهيمي الذي ما فتئ اللاهوتيون من الأديان الثلاثة يستفيدون منه. يضاف لهذا دور الروحانية الغربية في صدر القرن العشرين التي انتقلَت بسرعة إلى المفكّرين المسلمين كمحمد فريد وجدي (1878 - 1954) وطنطاوي جوهري (1870 – 1940ة) حتّى بلغت خطاب الإعجاز العلمي وحفَرت طريقة دفينة في التفكير. ناهيك عن دور النسوية والليبرالية والإصلاحية الإسلامية كما في أعمال عبد الله قويليام ومارمادوك بيكثال ومحمّد أسَد وأمينة ودود وطارق رمضان.. إلخ.

ترى ولاء قويسي في "التراثية الجديدة" مشروعًا سياسيًا يستبدل الإسلام السياسي بمخيال إسلامي جديد

وحاصِل القول إن "التراثية الجديدة" إنّما تقوم على تواريخ خصبة من طبيعة الالتقاءات التاريخية. غير أنّها أيضًا تُنبِئ بتعاظُم الدور الفكري والأيديولوجي وحتّى السياسي لإسلام الغرب، سواء كان فتواتيًا رجوليًا كما في حالة تَيْت، أو روحانيًا كما في التراثية الجديدة. إنّه إسلامٌ بقي لفترة معزولًا وممنوعًا من تمدّده في إسلام الشرق لبقائه لفترة في طور الهجرة والترديد، ولكنهم تهيّئوا لصدارة الإصلاح الدّيني، وهذا ينطبق على بعض الإسلام الليبرالي والنسوية القرآنية الإسلامية. والفرق هو أنّ "التراثية الإسلامية" حركة أخلاقية نابعة من تجربة ضاربة في الغرب والشرق، وأنّها في لبّ التحوّلات الأيديولوجية والصراع الأهلي على روح الإسلام.