27-يوليو-2023
لوحة بعنوان "ألعاب أطفال" لـ بيتر بروخل الأكبر/ هولندا

لوحة بعنوان "ألعاب أطفال" لـ بيتر بروخل الأكبر/ هولندا

يركز الأدب المتخصص بعالم الطفل، بشكل متزايد، على العبر التي يمكن استنباطها من سياق الحكاية، وعادة ما تكون هذه الحكاية الموجهة، منضوية في قوالب ومواصفات من حيث تبسيط الحبكة، ودس بعض الأسرار، والتوقعات المثيرة للتشويق، إضافة إلى وضوح معياري شديد يميز بين الخير والشر، وكل هذه الشاخصات الكتابية أو الشفاهية، تؤدي إلى طريق واحد، هو العبرة.

ومع أن التخصص في أدب الطفل ليس أمرًا ضاربًا في القدم، ولا حتى التخصيص الشرائحي الذي يدرج الأطفال ضمن شرائح عمرية، ويوجه الكتابة والتخييل نحو كل شريحة بما يناسبها، وبصرامة شديدة، لكن هذا كله يعتبر تنظيرًا بأبعاد أكاديمية، حول منتج أدبي تراثي، لا يزال في الجوهر يعتمد على الحكايات الشعبية، وما تحفظه الذاكرة الشفاهية، حديثة التدوين، هذا الأدب المتخصص في شكله المعاصر، مقترن بشدة، بتطور أدوات علم النفس والتحليل النفسي، الذي يفرد مساحة كبيرة للتجارب والخبرات الاجتماعية المكتسبة في فترة الطفولة، والتي من شأنها أن ترسم ملامح الشخصية في البلوغ، لذلك تزايد الاهتمام بشكل مضطرد بأدب الطفل المتخصص لجعل هذا المساحة آمنة، وزاخرة بما سمي "الخيال الأخلاقي" الذي يفتح بوابات الخيال أمام الصراعات الأخلاقية ويدمجها بمفردات العالم، بكل ما يشتمل عليه من حيوانات ناطقة، وقدرات خارقة، مع جماليات الزمان والمكان المطوع سحريًا، بما يخدم تقديم تصور أخلاقي سابق عن العالم قبل البلوغ، أي قبل أن يتقلص هذا العالم أمام البالغين، ويصبح عاديًا ومعقولًا وممكنًا ببساطة، وقبل أن يعيد البالغ اكتشاف العالم وتعريف مفرداته بصورة أقل سحرية، واكثر استيعابًا للخيبات.

يعتبر التراث الشعبي الحكائي تراثًا عالميًا، فهناك مشتركات بنيوية تجعل من حكاية شعبية يابانية تتقاطع حدثيًا وجوهريًا مع حكاية شعبية من نابولي، أو الموصل، أو أصفهان

ورغم الخصوصية البيئية والاجتماعية التي تميز القص الشعبي والحكايات الخرافية، والتي ينهل منها أدب الأطفال موضوعاته، إلا أن التراث الشعبي الحكائي يعتبر تراثًا عالميًا، فهناك مشتركات بنيوية تجعل من حكاية شعبية يابانية تتقاطع حدثيًا وجوهريًا مع حكاية شعبية من نابولي، أو الموصل، أو أصفهان، لأن مفردات القص متجهة دومًا نحو العبرة، فالملك الظالم، والأميرة المتغطرسة، شقيقة الأميرة الطيبة، والرجل قليل الحظ، والساحرة الشريرة ، والوحش الكاسر، وفوز الشاب الفقير الذكي بالأميرة كمكافأة،  كلها عناصر "حكي" يشترك فيها التراث الحكائي العالمي، حتى ولو كان هناك بعض الاختلافات البيئية الطفيفة، لكن هذه العناصر، وغيرها الكثير، تحفز المخيلة وتساعدها لبلوغ العبرة دون تعقيدات، وهو ما يعتبر نموذجيًا في كل ثقافات العالم.

يرسم الطريق إلى العبرة في التراث الحكائي الشعبي مسارًا عنفيًا ودمويًا مبررًا لأهداف إرشادية وتعليمية، وربما تطهيرية في بعض الحالات؛ قطع رأس الوحش، والصياد الطيب الذي يبقر بطن الذئب المحتال الذي ابتلع ليلى وجدتها.. كلها مشهديات عنفية شديدة القسوة، الغرض منها زيادة  التنبه، وإثارة الفزع من ارتكاب الأخطاء الناجمة عن عدم سماع نصائح البالغين، ففي قصة "هانزل وغريتل" مثّل وجود زوجة الأب الشريرة غيابًا للحماية بالنسبة للطفلين، ومثّل ضياعهما في الغابة قيمة أن يتحلى الأطفال بالذكاء، وسرعة البديهة، ومثّل انتصار الطفلين على الساحرة العجوز، صاحبة البيت المبني من الحلوى وقتلهما لها في النهاية، ضرورة اعتماد الأطفال على أنفسهم في الحالات الطارئة، محطات سردية زاخرة بخيال عنفي، ودموي، الغرض منها تعلم الاحتفاء بالفطنة، وتعزيز القدرات الفردية للطفل واعتماده على نفسه، وربما لم يتمتع أدب الأطفال بهذه الاستقلالية التي نشهدها اليوم، قبل التجارب البحثية في عالم القص الشعبي، لأدباء كبار مثل الكاتب النرويجي هانس كريستين أندرسن، والإيطالي إيتالو كالفينو، والأخوين غريم الألمانيان، إذ حاول كل واحد من هؤلاء بأسلوبه السردي أن يعيد كتابة القص الشفاهي، لتقديم الحكايات الخرافية والخيالية، بوصفها أدبًا صرفًا صالحًا للجميع، وليس للأطفال وحدهم، وهذا ما سمح بخلق مفردات وعناصر جديدة في عالمنا، صارت أباريق الشاي، هي من تحدثنا عن السادة، وعن أوقات العصر في لندن، وصار تحطم أسنان كسارة البندق حدثًا يوازي في شدته خطف رابنزل من قبل الساحرة الشريرة، ثم دفاعه المشرف عن صاحبته في وجه ملكة الفئران، وأصابتنا غيبوبة سحرية، ونحن نقرأ عن كلاوس الصغير، وأبقاره البحرية التي ترعى الطحالب في نهر السين.

أضاف جامعو القصص الأدباء بعدًا سرديًا خاصًا على القص الشعبي، يمزج بين النثر والشعر، إضافة إلى الخفة والانسياب في الحكاية، جعل من العبرة مجرد تأثير جانبي في مشروع اللذة والتذوق الأدبي.

لم تمنع الثورة الأدبية في عالم الحكايات الخرافية والخيالية، من استمرارية وجود مشهديات العنف والدموية المتجهة نحو العبرة، كل ما فعلته أنها جعلت العظة أكثر استتارًا وفسحت المجال أكثر، أمام جماليات السرد للقارئ والمقروء له على حد سواء، وعززت من عوامل الاستغراق في التخيل، لكن الوصول إلى العبرة ظل محكومًا باتجاه إجباري يمر عبر القسوة، ذلك لأن التراث الحكائي الشعبي، وأدب الخرافة والحكاية الخيالية المستند إلى ذلك التراث، مشغول بتزويد النشأ بمجمل الحقائق والخبرات عن العالم، بينما عمل أدب الطفل -المتخصص بصورته الحديثة- على تنقية الحكاية من مظاهر العنف والقسوة، واتجهت الحكاية أكثر نحو أسطرة مفردات الواقع الحقيقي، ونبهت إلى عدم الإفراط في التخييل، بحيث يصبح الخيال ملتزمًا بمنطق الحكاية وشخوصها وظرفها الزماني والمكاني، بطريقة تعاكس إلى حد بعيد، الانفلات التخيلي في التراث الحكائي، كما عمد أدب الطفل المتخصص  إلى تقنين جماليات السرد، وربطها بنوعية الشريحة المستهدفة، وبهذا  يبدو أدب الطفل بمعناه الحديث، أشبه باستمارة مبوبة  يحرص الكاتب المتخصص على ملأها بحذر، فكل شيء هنا بمقدار.

لقد منحني تعلم اللغة الألمانية الفرصة، للاطلاع على نتاج الكتّاب المعاصرين، وهيئات كتب الأطفال المتخصصة، فوجدت أن هناك محاولات حثيثة، للابتعاد قدر المستطاع عن مفردات الحكاية الشعبية، بمعناها الجوهري، من خلال تفكيك مفهوم البطولة والالتزام أكثر بالحدث والتحديات التي يخلقها، والتركيز أكثر على اكتشاف العالم، من خلال تبييء المغامرة، وجعل شخصيات الحكاية مسلية ومضحكة، ولم تعد المفردات القديمة التي تحتوي على طاقة شعرية كامنة، مثل الجبال والبحر والغابة، هي مصدر الحدث والسحر والمغامرة، صار بيت الشجرة الخشبي أمام المنزل هو مصدر السحر، والبركة الكبيرة التي يخلفها المطر هي سبب المغامرة وموضوعها، لا يمكن النظر إلى هذا التحول في أدب الطفل المتخصص، على أنه جيد أو سيئ، ولا يمكن أيضًا إجراء مقارنات تفضيلية من قبيل: أيهما أفضل وأكثر إغناءً لعالم الطفل الداخلي، أن نخلق عالمًا في الماضي مليئًا بالمغامرات والبطولات والسحر، ويقوم الطفل بإسقاطه على الواقع الحقيقي، بصورة عبرة؟ أم نمنح واقع الطفل ومفرداته اليومية أبعادًا سحرية، ونجعل السحر ممكنًا وقابلًا للحدوث امام باب بيته؟

أدوات مائدة للأطفال تحوي تفاصيل من قصص خيالية
أدوات مائدة للأطفال تحوي تفاصيل من قصص خيالية

إثارة هذا الأمر هي محاولة لفهم النقاشات الأكاديمية والشراكات الأدبية والنفسية، المتخصصة في صياغة أدب خاص بالطفل يمكن لمس تأثيراته على الأجيال القادمة.

إن وضعت محاولتي التحليلية والنقدية هذه جانبًا، وتجاوزت تجربتي في العمل مع الأطفال كتابةً ومسرحًا، وتحدثت كأب لديه طفلين، من شريحتين عمريتين مختلفتين، وحاولت الإجابة عن السؤال، ما الذي يهم الطفل أكثر خلال القراءة، إن قرأ بنفسه، أو قُرئ له، العبرة أم السياق المؤدي لها؟ فأنا حقيقة لا أعرف! لكن يمكنني القول، من خلال تجربتي كأب يواظب على قراءة القصص الخيالية والتخصصية لطفليه، إن الأطفال يظهرون ميلًا متأرجحًا للتحرر من العبر، ويتمسكون أحيانًا بطريقة غريبة بالسياق، ويحاولون إضفاء المنطق على السحر، ولا أظن أن ذلك يعد تعبيرًا عن محاولة الطفل لإدراك العالم على حقيقته، بل أجدها طريقة عبقرية للحفاظ على اتصال عاطفي مع مفردات هذا العالم.  يرى الطفل كل يوم تدفق العاطفة نحوه من كل ما يحيط به، من كائنات حية ومن جمادات، لكنه يتألم ربما، حينما يجدها سحرية في الحكاية، ومبهمة في الواقع، ويحاول الطفل، من خلال إضفاء المنطق على السحرية في الحكاية، أن يفسر مفردات الواقع عبر العاطفة.

ثمة كثافة عاطفية، تختزنها الدقائق القليلة التي يستمع فيها الطفل إلى حكاية ما قبل النوم، لا يميل فيها الأطفال كثيرًا لسماع العبر، وإملاءات عالم الكبار، بل يحاول فيها ابتكار العالم من جديد عبر العاطفة، يهمه أكثر أن يعرف لماذا يضيء القمر في الليل، كيف تعيش النجوم، هل يشعر الوعاء في الخارج في هذا الجو العاصف بالبرد؟ لماذا نبتتي لا تزال صغيرة وأنا أسقيها كل يوم بالماء، وأغني لها؟ هل الغيوم شريرة؟ لماذا الموسيقى صوتها جميل؟ هل حقًا لدي أوتار هنا في حلقي؟

أجد أن هناك زخمًا عاطفيًّا مثاليًّا لسرد الحكايات، حكايات لا تغفل العلم، لكنها تفسر مفردات العالم بطريقة عاطفية، لا تظل فيه الشجرة مبهمة ومناقضة لشجرة الحكاية، بل مفهومة وممكنة سحريًا، ربما يكون هذا اقتراحًا لأدب تخصصي يرى في فترة ما قبل النوم زمنًا مقتطعًا من سياق يوم حافل بالتجارب التعلمية والاجتماعية، لكنه متخصص بتكثيف شديد لتعزيز التجربة العاطفية للطفل تجاه العالم ومفرداته، ويمكن تسميته "أدب ماقبل النوم".