12-يونيو-2020

إسقاط حكومة دياب جزء من مطالب المحتجين (رويترز)

التظاهرات في لبنان لا تحدث لإسقاط حكومة حسان دياب بالتحديد. صار هذا متفقًا عليه. فهذه الحكومة، هي من ضمن سلسلة عوامل، يسعى اللبنانيون لإسقاطها. ولتفشي الفردانية في أوساط المتظاهرين، وغياب العناوين الواضحة، فالتظاهر أحيانًا يحدث لأجل التظاهر.

ثمة أوجه شبه كبيرة بين التكنوقراطيين، وثمة أوجه اختلاف أكثر منها بين لبنان وإيطاليا. وإن كانت إيطاليا حتى هذه اللحظة ما زالت تنتمي إلى اتحاد أوروبي ما زال واقفًا على قدميه بصعوبة بالغة، فإن لبنان يقف في العراء

لكن هناك ما يمكن الحديث عنه، على الهامش، هو حكومة دياب نفسها، كنموذج من نماذج التكنوقراط. ربما ليس هناك أفضل من مقارنتها بحكومة ماريو مونتي، في إيطاليا، عام 2011، مع الأخذ بالاعتبار الفروقات الكبيرة بين البلدين وموقعهما. هذه مقارنة "متخيّلة"، لا تستند إلى منهج، لكن النتائج قد تبدو مذهلة. فكما يتشابه اليمين مع اليمين، واليسار الليبرالي مع اليسار الليبرالي، واليسار الممانع مع اليسار الممانع، يتشابه التكنوقراطيون.

اقرأ/ي أيضًا: عودة التظاهرات إلى شوارع لبنان واشتباكات مع مؤيدي حركة أمل وحزب الله

-1-

بعد إسقاط حكومة الحريري الابن، الذي يمثّل عمليًا مصالح تحالف النخب الاقتصادية التي تحكم لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، وتمثّل سياساته بدورها امتدادًا لوصفات والده الراحل النيوليبرالية، اعتبر جزء من اللبنانيين أن اسقاط هذه الحكومة هو إسقاط لهذه النخب. وإن كان الجميع يعرف، من الناحية السياسية، أن حكومة دياب، هي حكومة سياسية، شكّلها حزب الله بالتحالف مع وزير الخارجية السابق جبران باسيل، المعروف بمواقفه السلبية من اللاجئين، فإن "البروفسور" مُنِح الفرصة من قبل كثيرين، كونه يأتي من مجموعة النخب الأكاديمية، وليس من الاستابلشمنت التقليدي. بدرجة مشابهة، اعتقد ايطاليون أن حكومة مونتي هي حكومة ذات شعبية في إيطاليا، على الأقل في أيامها الأولى. بعد عقدين من البرلوسكونية، كان وصول مونتي احتفالًا.

-2-

عندما وصل دياب إلى السراي الحكومي، كان أول ما قاله، بالإضافة إلى ما ردده وزراء حكومته من فريقه، ومن الفريق القديم الذي أعاد اكتشاف "تكنوقراطيته" فجأة، بأن "الأمر لن يكون سهلًا"، وأن صعوبات كثيرة ستواجه الفريق الجديد. وليس هذا نقاشًا يستحق العناء، فالجميع يعرف الدرك الذي وصل إليه لبنان. موضوع النقاش هو اللغة "التكنوقراطية"، حيث تُرتّب مواقع الأفكار السياسية كما لو أنها أجزاء من منشورات. مونتي نفسه قال في بداية عهده: "لن يكون الأمر سهلًا، وقد نحتاج إلى تضحيات". إلى جانب خبث اليمين الشعبوي، كان اليسار الإيطالي الراديكالي، الفريق الوحيد الذي اعترض على مونتي، لأنه عرف أن "الأستاذ الجامعي" لن يضحي بأحد عمليًا من الفريق القديم. لكن لا يسار راديكاليًا في لبنان، أو يسار قادر على تجديد راديكاليته بصورة تناسب الروزنامة.

-3-

كان لافتًا، في حالة مونتي، أنه حظي بتأييد "ملكة وملك" الاتحاد الأوروبي، أي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. أبديا "ثقة كبيرة" بالرجل، الذي جاء عمليًا، لضمان عدم حدوث توترات في الاتحاد الأوروبي بسبب فوضى سياسية في بلد يعد صاحب وزن كبير نسبيًا في الاتحاد، مثل إيطاليا. كذلك، ورغم أن الحكومة اللبنانية كانت مصبوغة بصبغة حزب الله، رحبت جميع السفارات الغربية بها، على أن يكون "الاستقرار" شرطًا لها. وطبعًا، ما يقصد بهذا التعبير، استقرار هذه المصالح الغربية، وليس استقرار اللبنانيين أو استقرار لبنان، على أي ناحية كان. هذا من الخارج، أما من الداخل فالتكنوقراطي الإيطالي حاز أغلبية مطلقة، وفي ذات الوقت أمّنت كتلة الحريري المستقيل النصاب في البرلمان اللبناني، علمًا أنها كانت تعلم بأن حضورها سيعني انتخابه. ولكن كان الأمر فرصة لإلقاء الأحمال الثقيلة على أشخاص يفترض أنهم "مختصون". في السياسة يصير هؤلاء مختصين بتحمل العواقب الوخيمة.

-4-

من الأوزار الثقيلة، غير الاقتصادية بالضرورة، التي تحملتها حكومة مونتي، كان دخول الرابطة إلى المشهد السياسي الإيطالي بقوة، كاعتراض شعبي أخير على كل ما يمت للنخب بصلة. وكانت فترة ماتيو سالفيني شاهدًا على ذلك. لقد تألف فريق مونتي من أشخاص يأتون من بورجوازيات صغيرة وكبيرة، أو أثرياء بلغة أقل تعقيدًا، إلى درجة سمحت لهم بالحصول على تعليم جيد، وإقامة علاقات سياسية زكّت أسماءهم في لحظة التكنوقراط. يمكن الحديث عن كورادو باسيرا مثلًا، الذي كان يدير "موندادوري"، دار النشر التي يملكها سيلفيو برلوسكوني، وعمدة جنوى السابقة آنا ماريا كانسيليريو وغيرهما. وعلى ذات المنهج، ظهرت شخصيات بذات التوجه في الحكومة اللبنانية، حيث أن التكنوقراطيين ليسوا حرفيين يتم اختراعهم أو نبشهم من مهنهم، بل هم في النهاية جزء من المؤسسة الحاكمة، من دون الحاجة إلى فذلكة هذا الواقع وإلى شرحه.

اقرأ/ي أيضًا: مشهد سياسي لبناني جديد.. الترويج للتعاسة

-5-

حكومة حسان دياب هي أول حكومة تتخلف عن سداد ديون لبنان. وبمعزل عن أي رأي بالحكومة نفسها، فهذا القرار، وبغض النظر عن البحث الضروري والمفصل بتفاصيله الإجرائية، كان قرارًا يحظى بتأييد شعبي كبير. ولكن النقاش حول الدين العام كان أساسيًا قبل أن يختفي لمصلحة نقاشات أخرى أقل أهمية، آخرها التعيينات حسب المصالح السياسية (كان مقررًا تعيين أحد المعالجين الفيزيائيين المقرّبين من حركة أمل كمدير عام لوزارة الاقتصاد). ومن أهم الانحرافات المتوقعة، كان عدم تنظيم العلاقة مع المصارف ومع مصرف لبنان، على نحو يسمح للطبقة المتضررة من إعادة تنظيم أمورها بالحد الأدنى. تدهور كل شيء. في إيطاليا، وأثناء حكم مونتي، استغل الشعبويون ضعف حساسية النخب تجاه مصالح الطبقة الدنيا، وتفضيلهم لأولويات الاتحاد الأوروبي، وصوبوا على هذه النقطة. في الوقت نفسه، كان الإيطاليون متأكدين من أنهم لا يتوجب عليهم سداد الديون من جيوبهم الخاصة، أو أن يدفعوا الفاتورة بأنفسهم. وصار مونتي مكروهًا ـ في لحظة ما ـ أكثر من برلوسكوني نفسه.

ثمة أوجه شبه كبيرة بين التكنوقراطيين، وثمة أوجه اختلاف أكثر منها بين لبنان وإيطاليا. وإن كانت إيطاليا حتى هذه اللحظة ما زالت تنتمي إلى اتحاد أوروبي ما زال واقفًا على قدميه بصعوبة بالغة، فإن لبنان يقف في العراء. قبل مجيء "التكنوقراط" كان الماضي مخيفًا أكثر من الحاضر. اتضحت الأمور أكثر فأكثر، بحيث انتفى الحاضر، كما لو أن كل الأحداث السياسية التي تجري غير معترف بها من اللبنانيين، وكأن السلطة الحالية ليست حقيقية إلا في التعسف. الخوف ينحصر في المستقبل، لأن الماضي لم يعد موجودًا. التكنوقراط مجرد وقت مستقطع، قبل أن تدوي صفارات الإنذار بقوة، كل مرة أكثر من السابق.