05-يوليو-2018

يلقي بعض المتدينين بالتهم لكل من ينتقدهم (تويتر)

من أسوأ تجلّيات التديّن المغشوش، والحرية الشخصية المغشوشة ابتزاز الضمير العام باسم الدين أو باسم حقوق الإنسان. فتصبح تهمة الزندقة والكفر والإلحاد أو تهم التخلف والتطرف والرجعية جاهزة في الأفواه وتطلق بسهولة على كل من انتقد سلوكًا أعوجَ لأدعياء التدين، الذين يسعون إلى أن يضفوا قداسة الدين على ما يفعلون، أو انتقد سلوكًا غير لائق لأدعياء التحرّر. وهي الظاهرة التي باتت ثقافة عامة في الفضاء الجزائري، أو في فضاءات عربية شبيهة خلال السّنوات الأخيرة.

إذا كان وقتك في تلك اللحظة يسمح لك بأن تتفرّغ لسماع القرآن، فما أدراك أن وقتي يسمح؟ 

كوني أطالبك بألا تزعجني بشاة عيدك، فلا تطلقها تعيث في نباتات الحيّ فسادًا، وأن تتحكّم في تبنها حتى لا يغمر سلّم العمارة، وأن تنظف دمها وتضع جلدها في المكان المناسب بعد ذبحها لا يعني أنني ضدّ شعيرة الأضحية. وكوني أطالبك بألا تطلق المفرقعات على شرفات الناس، وألا تقطع مصالحهم بقطع الطريق، وألا ترفع الموسيقى إلى وقت الفجر، لا يعني أنني ضد شعيرة الزواج. وكوني أومن بأن الفعل المسموح بنقله خارج المسجد هو الأذان، لإعلام الناس بحلول موعد الصلاة، أما نقل الصلاة والخطب والتراويح، فلا مبرر له، لأن الناس المتواجدين خارج المسجد حينها مشغولون بدنياهم، لا يعني أنني ضد الصلاة. وكوني أطالبك بخفض صوت الترتيل لتسمع على مستواك فقط، لا يعني أنني ضد القرآن الكريم.

كانت ابنتي الصغرى مريضة. ولم أصدّق أنها نامت بعد أرق دام ليلة كاملة، لكنها سرعان ما صحت وراحت تغطّ في البكاء. والسبب أن جاري أطلق العنان لإحدى القنوات المتخصّصة في ترتيل القرآن، فما كان مني إلا أن طرقت بابه، وطلبت منه أن يسمع على مستواه. فهو حرّ في أن يسمع القرآن في الوقت الذي يشاء، لكنني لست ملزمًا بأن أفعل ذلك معه.

اقرأ/ي أيضًا: ميليشيا الثقافة.. مقهورو الأمس قاهرو اليوم

في المساء، خرجت لأتبضّع، فلمحت إعراضًا من بعض الجيران، وقد كانوا يحتفون بي ابتسامًا وكلامًا! سألت أحدهم عن الأمر، فسألني بوجه مكفهر: هل أنت ضدّ القرآن العظيم؟ قلت: لا. قال: فلماذا طلبت من جارك أن يوقف ترتيله؟ هناك علمت أن الرّجل زرع في الحيّ أنني زنديق لا أحبّ كتاب الله. وقد اتخذ من ذلك مدخلًا ليتخذوا مني موقفًا، فيعزلونني عزل البعير الأجرب، تمهيدًا لعقوبات أخرى تثمرها إشاعة كوني كافرًا.

تحيّنت وجوده مع مجموعة من الجيران، فسألته: هل بلغك الحديث النّبويّ القائل: "لا تؤذوا النّاس بالقرآن؟". قال: لا. قلت: كان عثمان بن عفّان يقوم ليله بصوت مرتفع، هادفًا أن يسمع جاره القرآن، فجاء هذا الأخير إلى النبي وقال إنّ صاحبه عثمان يشوّش على نومه، وهو صاحب حرفة يصحو لها باكرًا، فقال النبي ذلك.

إذا كان وقتك في تلك اللحظة يسمح لك بأن تتفرّغ لسماع القرآن، فما أدراك أن وقتي يسمح؟ هل تعلم أنك أيقظت ابنتي المريضة؟ كيف تسمّي هذا؟ ثمّ لماذا تعاملني كأنني غريب عن القرآن، فأنت تجتهد لأن أعرفه؟ لماذا تتغيّب عن حملات تنظيف الحي؟ وتتأخر عن دفع مستحقات منظفة العمارة؟ وتمنع التحية عن بعض جيرانك؟ هل أنت مطالب بأن تشاركني ما يعنينا جميعًا مثل النظافة، أم بأن تشاركني ما تسمع بغضّ النظر عمّا تسمع؟ قال: هل كنت ستحتجّ لو كان الصوت موسيقى؟ قلت: نعم. فمحلّ الاحتجاج الصوت المرتفع لا مضمون الصوت.  

اقرأ/ي أيضًا: إسلام السوق.. إلحاد السوق

في المقابل، كوني أرفض أن تشرب في مكان عمومي، وترمي زجاجاتك في الطريق، وتتحرّش بالنساء الخارجات لقضاء حاجاتهنّ، وتطلق كلامًا بذيئًا على مسامع الناس لا يعني أنني ضدّ حريتك الشخصية. فأنت حر ما لم تضر.

ها نحن إذن، بعد نصف قرن من الاستقلال، بصدد شارع بعيد عن جوهر الدين والدنيا معًا. مع ذلك، تصرّ المنظومات المعنية بالأمر على أنها ناجحة، من غير أيّ حياء أو شعور بالتقصير. نعم. نحن ناجحون، ولكن في الفشل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن العلمانية أيضًا

عن قصص متهمين بـ"ازدراء الأديان" في مصر!