27-فبراير-2020

كتاب "آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا"

منذ صعود المدّ الاشتراكي في العالم العربي إبّان مرحلة استقلال البلدان العربية، كان الاتحاد السوفييتي قبلة كثير من المثقفين والمفكرين العرب، وكان النتاج الأوروبي كله يُقرأ من خلال تطبيقات الحزب الواحد والجيش الأحمر هناك، ورغم انهيار النظام الشيوعي وتفكّك الاتحاد السوفييتي، فإنَّ أفئدة هؤلاء المثقفين لا زالت تهوي إلى موسكو والساحة الحمراء، بوصفها بوصلة التفكير الثوري العالمي، فهل تمكّنت روسيا من الانتقال إلى الديمقراطية؟! وهل لديها ما تعطيه للمثقف العربي اليوم؟

في بحثه "آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، يركز الباحث الجزائري جلال خشيب على محددين لاستشراف الحالة الديمقراطية في روسيا: أولها: العامل الثقافي، والثاني: موقف النخب السياسية الروسية ومصالحها. ويضعنا أمام واقع النظام السياسي الروسي وتركيبته ومراحل تطور العملية السياسية والقانونية منذ نهاية الحقبة السوفيتية وصولًا إلى رئاسة فلاديمير بوتين.

يختلط الطموح السياسي في روسيا بـ"مقوّم روحي يتطلع إلى سيادة العالم"، وقد وصف غوميليوف الشعب الروسي بالشعب المولع بالسيطرة على العالم

يتكوّن الكتاب من ثلاثة فصول، يشرح في الفصل الأول موقع روسيا الجيو-استراتيجي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فهي تمثل جسرًا بين قارتي أوروبا وآسيا، بحدود مشتركة مع 16 دولة، كما تطل على أكبر بحيرة مالحة في العالم: بحر قزوين، ونظرًا لحساسية الموقع الذي تحتله روسيا، قال مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق مؤلف كتاب "رقعة الشطرنج الكبرى" زبيغنيو بريجنسكي بأن انهيار الاتحاد السوفييتي خلق ثقبًا أسود وفراغًا في القوة لمركز أوراسيا، وأدى ذلك إلى تراجع حدود روسيا مع الغرب بشكل كبير، وتقلص مجال نفوذها أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "معالم الوعي القومي".. رئيف خوري ناقدًا لقسطنطين زريق

يعود بنا الكاتب جلال خشيب إلى عام 1452، حين بدأ صعود مدينة موسكو لتصبح مركز القطب الصاعد بدلًا من العاصمة السابقة كييف، من خلال تمكن أمير موسكو "إيفان العظيم" من تحقيق الاستقلال من الحكم المغولي، ثم توحيد بقية الإمارات عام 1480، وهي بداية السياق التاريخي الذي شكل روسيا اليوم.

يختلط الطموح السياسي في روسيا بـ"مقوّم روحي يتطلع إلى سيادة العالم"، حتى وصف عالم الأنثروبولوجيا غوميليوف الشعب الروسي بـ"الباسيوتارنست"، أي الشعب المولع بالسيطرة على العالم!

الثقافة مانعًا للانتقال الديمقراطي!

يؤكد الباحث جلال خشيب أنَّ الثقافة السياسية في روسيا هي أكثر العوامل تفسيرًا لأسباب إخفاق الانتقال الديمقراطي هناك، مستندًا إلى الأكاديمي والمؤرخ الأمريكي ريتشارد بايبس الذي يرى أن روسيا ورثت "ماضيًا محافظًا وأوتوريتاريًا {...} ناتجًا عن أربعة عوامل تاريخية وطبوغرافية موروثة هي: عامل الجغرافيا - وبشكل أدق، عامل شساعة الإقليم (يقصد مساحته الهائلة)- السمة الريفية للمجتمع، الديانة الأرثوذكسية، وكذلك عامل الحقبة التاريخية الطويلة التي عاشتها روسيا تحت نير العبودية المنغولية". أمّا ناتاليا تيخوفونا فترى أن سمة المحافظة على التقاليد في الثقافة الروسية هي الأكثر تأثيرًا، ففي ضوء هذه الثقافة تظلّ الدولة مُشرعنة في نظر الشعب.

يرى خشيب أن الديمقراطية كحال باقي الأفكار السياسية لن تحرك المجتمعات نحو الأفضل، ما لم تكن وليدة المكون الثقافي لتلك المجتمعات، وأن "تجد لها أصلًا وجذرًا في ثقافة الأجداد، على أن تصنع لها روحًا جديدة تواكب تطلعات الأحفاد".

لكنني أرى أن محدد الثقافة -الذي كان الاستناد إليه تقليدًا في حقل التحول الديمقراطي- لم يعد يجد من يستعين به بعد أن دخل العامل الإحصائي في إثبات النظريات، ومن جانب آخر، حين نعود إلى العمل المركزي في علاقة الثقافة السياسية بالتحول الديمقراطي وهو كتاب "الثقافة المدنية" لغابرييل ألموند وسيدني فيربا، صدر عام 1963، وقد استند إليهما الباحث بطبيعة الحال، فإننا لن نجد عندهم ما يزعمه أصحاب التقاليد الثقافية، فلم يَدَّع الكاتبان أنهما يفسران غياب ظاهرة الديمقراطية حيث لم تنشأ، ولا "ادعيا تفسير نشوءها حيث نشأت بأدوات نظرية الثقافة السياسية، بل حاولا تفسير ثبات الديمقراطية حيث توجد باعتبار أن الثقافة المدنية عنصر حيوي في الحفاظ عليها".

مصالح النخب

يحدّد الباحث أربعة مؤشرات يمكن أن نقيس بها درجة التحول في روسيا نحو الأفضل، ومن أبرزها: مدى تحول النخب السياسية والاقتصادية باتجاه النظام الديمقراطي، فالنخب الروسية الحالية تقوم بتطوير علاقات حصرية بالسلطات -وتحديدًا السلطة التنفيذية متمثلة في الرئيس- مستعملين ارتباطاتهم وعلاقاتهم هذه لزيادة مصالحهم وأعمالهم الخاصة، حتى وصل الحد في روسيا إلى إطلاق مصطلح "العشائر" لوصف تجمعات النخب في روسيا.

ومن العسير ادّعاء أن النخب الروسية لها مصلحة في الانتقال نحو نظام ديمقراطي حقيقي أو الخروج مما يسمى الديمقراطية الموجهة، والتي تتضمن بعض الحريات والحقوق، التي تستخدم في الأساس للاستهلاك الخارجي أمام الرأي العام الدولي، وللاستهلاك الداخلي أمام قوى المعارضة التي يضعفها نظام "الديمقراطية الموجهة" باستمرار، وهي تختلف عن النظام التسلطي الصريح بأنها مغلفة ببعض مظاهر الديمقراطية الدستورية الحديثة، حيث توجد انتخابات برلمانية ورئاسية، ودستور، وحرية مقيدة للتعبير عن الرأي (هاني شادي، التحول الديمقراطي في روسيا)، إلّا أنّها تخلو من الشفافية والرقابة الحقيقية والتنافس بين الأحزاب والشخصيات على أساس البرامج العمليّة في خدمة المواطنين، والعقلانية في بناء العلاقات بين فئات المجتمع المختلفة.

يؤكد الباحث جلال خشيب أنَّ الثقافة السياسية في روسيا هي أكثر العوامل تفسيرًا لأسباب إخفاق الانتقال الديمقراطي

على حد تعبير الباحثة ليليا شيفتسوفا، صاحبة كتاب "روسيا بوتين"، فإن طبقة النخبة في روسيا "يخافون من التخلي عن مفاتيح التحكم ويُرعبون من المنافسة، يخافون من شعبهم ومن أي بدائل لأنهم لم يعتادوا على العيش في مجتمع حر، بعد أن تعوّدوا الاعتماد على الشرطة والأجهزة الأمنية والجيش وجهاز الدولة ويعتبروها شبكة أمنهم وضمان بقائهم".

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "استعادة الخلافة".. هل هذا ممكن؟

يبدو أن يوغين سورنسن كان محقًا حين قال بأن "سيرورة التحول الديمقراطي في روسيا هي في المقام الأول والأخير سيرورة تحرر، وزيادة المنافسة السياسية التي تؤازرها حقوق وحريات حقيقة"، ونحن في العالم العربي أكثر من يشعر بدقة مصطلح "التحرر" في هذا السياق، إذ يرتبط تحرر عدد من البلاد العربية بتحرّر الروس من نخبتهم ذات الخيال الإمبريالي!

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "أسئلة الحداثة في الفكر العربي".. حتمية المخاطرة

3 كتب عن المثقف.. الأدوار والمواقع