25-فبراير-2020

قسطنطين زريق ورئيف خوري (ألترا صوت)

لا تكاد تخلو ساحة فكرية أو ثقافية من حالات سجالية بين المفكرين والفلاسفة. ففي العالم العربي شهدنا العديد من هذه الحالات، لكنها حافظت على مساحة لها في بعض صفحات الكتب أو هوامشها، مثل النقاش الذي دار بين فرح أنطون وشيخ الأزهر محمد عبده حول فلسفة ابن رشد، فعبده اعتبر طرح أنطون يلامس العقيدة الدينية ويخرج على النظريات الفلسفية (1903)، ويعتبر هذا النقاش من أوائل النقاشات أو محاولات الرد في الفكر العربي.

أعاد "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" طباعة كتاب "معالم الوعي القومي" مرفقًا بتسعة مقالات كتبها رئيف خوري لاحقًا

ولكن أن يجلس مفكرٍ ويفرغ كتابًا كاملًا للرد على قرينه فهي حالات نادرة لم نعهدها كثيرًا في الساحة الثقافية العربية، ومنها آخر سجالٍ في رأينا الذي رد فيه جورج طرابيشي على محمد عابد الجابري في سياق النقاش حول سؤال التراث والحداثة، فيما إذا كان بالإمكان التوفيق بينهما أو إقصاء الأول لصالح الدخول في الثاني، وهو السؤال الذي هيمن على النقاشات الثقافية في ثمانينيات القرن الماضي وما بعده، هربًا من عسَف الدولة العربية وبطشها، والفشل في محاولات إصلاحها السياسي (رغم أن رد طرابيشي كان المقصود منه هو إظهار الإشكاليات المعرفية التي وقع فيها الجابري أثناء تنقيبه في التراث الإسلامي).

اقرأ/ي أيضًا: "التراث" عند الجابري.. تمفصُلُ المغرب والمشرق

يتوسط هاتين الحالتين الرد الساخر من الأديب والماركسي اللبناني رئيف خوري على كتاب "الوعي القومي" للمؤرخ والمفكر السوري قسطنطين زريق. صدر كتاب زريق عام 1939 عن "دار كشوف" حين كان ابن ثلاثين عامًا، فيما كتاب خوري "معالم الوعي القومي" صدر عام 1941 عن ذات الدار، وهو ابن الثامنة والعشرون ربيعًا. وأعاد "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" طباعة الكتاب لأهميته عام 2015، مرفقًا بتسعة مقالات كتبها خوري لاحقًا.

الوعي القومي

ينبغي على العربي الواعي قوميًا عند قسطنطين زريق "أن يضع يده على أصل الجنس العربي.. يسايره في سيادته على الأجناس الأخرى وامتزاجه بها وفيما تكوّن من هذا الامتزاج من أمة مختلطة الدم والجنس، موحدة في الارتباط القومي". إلا أن رئيف خوري يعترض ساخرًا ومتسائلًا عن أي أصل يتحدث الدكتور زريق وهل يقصد جدنا آدم مثلًا، أم سام؟

ولو وضعنا زريق في سياقه التاريخي لوجدنا أنه في تلك المرحلة قد ساد في القوميات كالألمانية والإيطالية بعض المنظرين الداعين إلى البحث عن أصل الجنس الألماني أو الإيطالي، أي أن زريق هو ابن مرحلته الفكرية، ولو قرأه أي عربي في ذلك الزمن بالضرورة سيتأثر بقول زريق وقد تأثروا بالفعل.

أما النقطة الثانية التي اعترض فيها خوري على زريق، هي حين شدّد الأخير على قياس وعينا القومي بوعي الغربيين فهو يقول: "الفرنسي الواعي قوميًا يعرف بوضوح ودقة مزايا لغته ونبوغها الخاص. ومثله الألماني الذي ينشر أمامك خصائص ثقافته. والإنجليزي الذي يعرض لك تاريخ أمته فيشير بفهم وإدراك إلى الدور العظيم الذي مثلته"، وفي رأي رئيف خوري يعتبر هذه الكلام أنتج شططًا عند زريق في تقدير العربي الواعي قوميًا. فحديثه عن الألماني والفرنسي والإنجليزي لا يصح إلا على أساتذة متخصصين.

واستكمل خوري نقده وصولًا إلى مسألة الأخلاق، فقسطنطين زريق يقول: "أين نحن من التفكير الاجتماعي الرصين الذي يعالج أزمتنا الأخلاقية وتدنّي مستوانا الروحي في الأسرة والمدرسة والدولة، بل في جميع منظمات مجتمعنا؟"، حيث رد المفكر الماركسي قائلًا: "لا أرى طائلًا في عرض القضية القومية على اعتبار أنها قضية أخلاق. فهذا عرض سطحي، ويمكننا أن نبقى إلى ما شاء الله نرد مصيبتنا إلى فقر الأخلاق وتدنّي المستوى الروحي وقلة مجاهدة النفس، فلا نقوم بأكثر من وعظ يذهب هباء... ثم إني، بصراحة، لا أرانا ممتازين امتيازًا خاصًا بالآفات الأخلاقية!".

أوكلت مهمة التعليم لأحد أكثر القوميين العرب شهرةً، وهو ساطع الحصري الذي عرّبَ المناهج التعليمية في سوريا (1920) وفي العراق (1923)

أما المسألة الأخيرة والمهمة فهي استخفاف رئيف خوري حين دعا زريق الدولة إلى السيطرة على منظمات التعليم وعلى سواها من مجاري العلم والأدب كالصحافة والإذاعة اللاسلكية والجمعيات الثقافية، والتي تعتبر عنده وسائل يجب اتباعها لأجل التربية القومية، ولا نكاد نجد حرجًا في هذا فكل أمم الأرض تشكلت من خلال عملية التربية القومية عبر المؤسسات، وأحد أهمها التعليم الذي يربي على ذاكرة وثقافة مشتركة والتي في كثير من الأحيان كانت ومازالت مبنية على أساطير حول التاريخ والآباء المؤسسين. وشدّد زريق على ضرورة اختيار الأشخاص الذين توكل إليهم القيام بهذا العمل الذي وصفه بالخطير.

اقرأ/ي أيضًا: 3 كتب عن المثقف.. الأدوار والمواقع

ولكي لا ننسى أنه بالفعل أوكلت مهمة التعليم لأحد أكثر القوميين العرب شهرةً وهو ساطع الحصري الذي عرّبَ المناهج التعليمية في سوريا (1920) وفي العراق (1923)، حيث رفض في البلد الأخير عرض الملك فيصل بضرورة إيجاد مدارس خاصة لكل طائفة في العراق، مصرًّا على منهاج قومي واحد، عابرًا لكل الأديان والطوائف والعرقيات (الحصري، مذكراتي في العراق ج1، ص147). وسانده العديد من تلامذته وأصدقائه في هذه المهمة، فمثلًا يعتبر أول كتاب في تاريخ العرب طُبع تحت إشراف الحصري كان من تأليف المؤرخ الفلسطيني درويش المقدادي، الذي يؤكد على تاريخ أمة عربية مشتركة عابرة لكل الروابط الـ ما قبل دولتية (من دولة). حتى أن تطرفه في قوميته وصل إلى حد فصل الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري من وزارة المعارف؛ لأنه تغنّى بمنتجع اصطياف إيراني، (عضيد دويشة، القومية العربية في القرن العشرين، ص 63).

ثمة مسألة جوهرية تجاهلها رئيف خوري من النقاش وهي عدم وجود إشكالية بين الإسلام والقومية عند قسطنطين زريق، فالأخير يقول: "وقد بلغ أثر هذا الدين كل ناحية من نواحي ثقافتنا العربية، فلسنا نستطيع اليوم أن نفهم تراثنا العربي القديم، سواء أفي الفلسفة أو العلم أو الفن، إلا بعد درس عميق لنصوص الدين الإسلامي وأحكامه، وتفهم صحيح لروحه ونظامه، (الوعي القومي، ص114). وأجد أنه من الضروري التأكيد عليها لأنه بحسب مجيد خدوري يتجنب المفكرون العرب المسيحيون اعتبار الدين والقومية شيئًا واحدًا، فشددوا على العوامل اللغوية والثقافية العربية، لكن حتى الذين نادوا منهم، "مثل زريق وإدموند رباط، باعتبار الإسلام من عناصر القومية، وأوضحوا أنهم يعنون بالإسلام جوانبه الخلقية والروحية، لا محتواه الديني والمذهبي بحد ذاته"، (خدوري، الاتجاهات السياسية في العالم العربي، ص 207-208)

ملاحظات مفكر وباحث عربيين

يعلق عزمي بشارة على سخرية رئيف خوري من كتاب قسطنطين زريق التي شبهها بما يسمعه في مواعظ يوم الأحد في الكنائس المسيحية، يقول بشارة: "لكن سخرية الماركسيين عمومًا، وحتى الأخلاقيين من بينهم، من القضية الأخلاقية والتربوية والقومية، واعتمادهم نسبية الأخلاق الكارثية والتساؤل الدائم حول أي مصلحة تخدم القيمة الأخلاقية واتهام القومية بالرومانسية، هي مثال على تهافت هذا النوع من النقد. أدى هذا النهج الفكري والسياسي إلى ما أدى إليه في دول المنظومة الاشتراكية من هدم الإنسان والقيم المجتمعية في ما يتجاوز حتى آثار انهيار الدكتاتورية الشمولية" (في المسألة العربية، ص 284)

إن قسطنطين زريق بعد عشرين عامًا همش فكرة القومية لصالح فكرة "التحديث"، بعد عمله في السلك الدبلوماسي

أختم بدراسة معمقة لفكر قسطنطين زريق وهي للباحث الفلسطيني هاني عواد التي يقول فيها إن زريق بعد عشرين عامًا همش فكرة القومية لصالح فكرة "التحديث"، ويرجع عواد التحول الفكري الذي أصاب زريق هو عمل الأخير "في سلك الدبلوماسية الذي خاض غماره منذ منتصف الأربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات؛ لأن العمل الدبلوماسي، كما يقول {زريق}، هو الذي يجعل الإنسان مقدرًا لأهمية "العمل المنتج المنطوي على تَبِعة"، فالعمل المهني/التقني، جعل زريق في فترته التالية يفكر بطريقة تقنية" (عواد، تحولات مفهوم القومية العربية، ص 86).

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن مارتن لوثر الإسلام

إلا أن عزيز العظمة رغم دراسته لأعمال زريق لم يرَ أي تحول في فكره، وهو ما عقب عليه عواد بالقول: "إن قراءةً معمقة لأعماله تؤكد أن أفكاره انتابها تحوير أساسي، تدريجي وليس انقلابيًا {...} ربما أدت علاقة الصداقة والتآلف بين زريق والعظمة إلى أن يغفل الأخير أن مسألة ثبات الأفكار هي إهانة للمثقف أكثر من كونها إشادة به؛ فالأصل في المفكر أن يطور ويعيد مراجعة إنتاجاته، لأن الأفكار مثلها مثل الواقع، تاريخية وابنة زمانها ومكانها". (عواد، ص 92).

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "نظريات القومية": من الأزلية إلى المتخيلة

6 كتب لا بد منها لمعرفة فلسطين