09-مايو-2017

المجتمع المدني في الأغواط يزين المدينة ويروج لتقاليدها (فيسبوك)

كانت الجماعة أو "ثاجماعت" باللغة الأمازيغية، وهي نخبة الأعيان في تجمّع سكني ما في الجزائر، تشكّل كيانًا موازيًا للسّلطة الاستعمارية الفرنسية، تسيّر الشّؤون اليومية للسكّان، أو "الأهالي" بالمصطلح الفرنسي، وتصالح بين المتخاصمين منهم، وتشرف على جمع التبرّعات لإنجاز مشروع، أو لإقامة عرس أو التكفّل بجنازة أو لإرسال شابّ لطلب العلم، إلى جانب تنظيم الحملات التطوّعية، لمساعدة أحدهم في حرثٍ أو حصادٍ أو حفر بئرٍ أو بناء بيتٍ، وتسمّى في الثقافة الشعبية "التويزة".

جملة التحولات التي عرفتها الجزائر، في العقدين الأخيرين، منها تجربة العنف والإرهاب، عطلت عمل المجتمع المدني

تعزّزت هذه البنية الاجتماعية أكثر، خلال ثورة التحرير، 1954ـ 1962، وصبّت في صالحها، من خلال جمع الاشتراكات المالية لدعم الثوّار، وتوفير المؤونة والمعلومة لهم، وتأطير الشّباب للالتحاق بصفوفهم، وهو ما دفع بالسّلطات الفرنسية إلى إقامة محتشدات مراقبة، حتى تستطيع تقييد الحركات الشعبية، وعزلها عن "الفلّاقة"، وهو الاسم الذي كانت تطلقه على الثوّار في الجبال.

اقرأ/ي أيضًا: "ناس الخير".. روح المجتمع المدني الجزائري

بعد الاستقلال الوطني، مطلع ستينات القرن العشرين، استرجعت "ثاجماعت" سلطتها، حتى أنها كانت أقوى حضورًا وتأطيرًا وتسييرًا للحياة العامّة، من مؤسّسات الدّولة الوليدة، التي بادرت في العقد الثاني من الاستقلال، إلى تأطير هذه الرّوح الجماعية، فيما سمّي بالقرى الاشتراكية، انسجامًا مع الخيار الأيديولوجي والاقتصادي، الذي تبنّاه الرّئيس هوّاري بومدين، 1932ـ 1978.

غير أنّ جملة التحوّلات الاقتصادية والثقافية والسّياسية، التي عرفها الفضاء الجزائري، في العقدين الأخيرين، منها تجربة العنف والإرهاب، التي نزعت عنصر الثقة بين الناس، وأدّت إلى موجات غير مدروسة من النزوح نحو المدن، بكلّ ما ترتّب على ذلك من عشوائيات، أدّت إلى تفكّك هذه البنيات الاجتماعية الأصيلة، التي أشار إليها كارل ماركس بإعجاب كبير، في كتابته عن رحلته إلى الجزائر للاستشفاء عام 1882.

إلا أن ذلك لم يحدث في مناطقَ محدودةً وحسب، مثل منطقة بني مزاب، 600 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، حيث لا تزال لمجالس "العزّابة" سلطة مطلقة فيها، في تسيير الشأن العام، وبعض الجيوب في منطقة القبائل شمالًا. ومع ذلك تجاوزت الأجيال الجديدة هذه البنية، ورأت فيها سلطة أبوية قامعة، من غير أن تقدّم بدائل حديثة لها، مثل الجمعيات والروابط والنوادي المدنية، وما يتوفّر منها يوجد في أوراق وزارة الدّاخلية، أكثر من وجوده في الميدان، وهو ما أوقع المجتمع المدني الجزائري في استقالة معنوية جديرة بالدّراسة والانتباه، باستثناء مبادرات تظهر من حين إلى آخر.

أقدمت نخبة من شباب وفنّاني المدينة على إطلاق مبادرة "الأغواط الزّينة"، بهدف استرجاع الوجه الحضاري والنظيف للمدينة

من ذلك، ما شهدته مدينة الأغواط البعيدة 400 كيلومتر جنوبًا، قبل أيام قليلة، حيث أقدمت نخبة من شباب وفنّاني المدينة، على إطلاق مبادرة "الأغواط الزّينة"، بهدف استرجاع الوجه الحضاري والنظيف للمدينة، التي سمّيت كذلك، بحسب كتاب "الأغواط والمنازل المحاطة بالبساتين" للكاتب الفرنسي جون ميليا عام 1923، نسبة إلى الغوطة التي هي المكان المنبسط والمخضرّ.

تعود مبادرة "الأغواط الزينة" إلى جهود "جمعية الأطلس الصّحراوي للفتوغرافيا"، بنواديها المتخصّصة في التّصوير والأدب، نادي ماموث وأورانيوس وأنفينيتي، وقامت على فكرة إعادة الألق للأحياء الشعبية، من حيث النظافة ودهن الجدران وتوحيد ألوان النوافذ والأبواب، وللألبسة التقليدية التي تعرف بها المنطقة، بارتدائها في كرنفال شعبي طاف على الأحياء والحارات، مشكّلًا لوحات بديعة.

اقرأ/ي أيضًا: بعض الأحياء الجزائرية.. النّفايات ليست قدرًا

يقول رئيس جمعية الأطلس الصحراوي ياسين تاج لـ"الترا صوت" إن منشأ الفكرة كان من الاستياء العميق الذي أصابه، حين رأى أحدهم يرمي من نافذة سيارته بقايا الفاكهة في الشارع، "فسألت رفيقي النّاشط أحمد بديار: هل كان سيفعلها لو كانت المدينة خاضعة لسياسة نظافة صارمة يشرف عليها المجتمع المدني نفسه، بحيث تصبح أناقة المكان من أناقة الإنسان، لا من حملات البلدية الخاضعة للمزاج والارتجال؟"  

ويتابع ياسين تاج: "بادرنا باقتراح مسابقة بين الأحياء لاختيار أنظف الأحياء وأجملها، بعد أن نقوم بحملة تنظيف ودهن وزخرفة وتزهير، لكنّ المسعى قوبل بتثبيطات كثيرة، فرضتها النظرة القاصرة لبعض الأطراف التي تحاول أن تستغلّ كل حركة لأغراضها الشخصية، وهو ما دفعنا إلى أن نرمي المشروع في الأوساط الشعبية مباشرة، فكان أن احتضنها بدايةً حي "سيدي يانس" العتيق، وأصبحت حقيقة قائمة وخالقة للإعجاب والتنافس، وقد تبنّتها أطراف شعبية وحكومية كثيرة، منها والي الولاية أحمد منقلاتي". 

تكاتفت الجهود وتقاطعت الرّؤى، بين الجهة المبادرة والجهات الشبيهة، مثل باحثة التراث مريم رزوق وجمعية "بارود الأغواطي" وفرقة "الرحالة" والمسرحي هارون الكيلاني، وانطلق كرنفال الألبسة التقليدية المحلية، احتفاء بها في ظلّ تراجعها مؤخرًا، لصالح الأزياء الأجنبية القادمة من فضاءات غربية وإسلامية.

يصف الممثل والمخرج المسرحي هارون الكيلاني المشهد لـ"الترا صوت" بأنه جمع بين صدمة النّاس وإثارة إعجابهم، "فقد تشكّل الكرنفال، الذي شقّ وسط المدينة إلى حي سيدي يانس العتيق المحاذي لمقبرة المدينة، من جامعيين وفنانين وشخصيات ذات تأثير عام، بعيدًا عن العقدة التي تصيب بعض الشباب من ارتداء ما كان يرتدي أجدادهم، حيث تألّقت القندورة واللحفة والقشابية والبرنس والظلّالة وقفّة الجريد".

لقد كانت رسالتنا واضحة، يقول هارون الكيلاني، وهي أن انخراطنا في العصرنة لا يعني تخلّينا عن ملامحنا الحضارية التي لا تحيل إلا علينا، وإيماننا ببعدينا العربي والإسلامي، لا يعني أن نصبح غيرنا من حيث اللباس. يضيف: "ما دمنا نختّن ونتزوّج ونحرث ونحصد ونشيّد البيوت، فلماذا لا نفعل ذلك وفق الطقوس التي كان أجدادنا يفعلونها؟ إن المجتمع المدني مطالب باسترجاع ملامحه الثقافية الجزائرية، بقدر ما هو مطالب بالانفتاح".

اقرأ/ي أيضًا:

مثقفو الجزائر يدينون حلّ جمعية ثقافية

نادٍ ثقافي في جامعة قسنطينة.. عراقيل عدة