25-أغسطس-2016

من أنشطة جمعية ناس الخير الجزائرية(فيسبوك)

قبل سنوات، اعترف وزير الداخلية والجماعات المحلية نور الدين يزيد زرهوني، بوجود ما يزيد عن 70 ألف جمعية "نائمة"، رغم تلقيها للدعم الحكومي، أي أنها جمعيات ورقية لا أثر لها في الميدان. غير أن الوزير لم يعترف بأن هذا الواقع هو ثمرة لمنطق الحكومة القائم على خلق أطرٍ تلجأ إليها في المواعيد الانتخابية لتزكية مرشحيها، لا للقيام بأدوار المجتمع المدني، والدليل أنها لا تربط الدعم بالنشاط.

قبل سنوات، اعترف وزير الداخلية الجزائري بوجود ما يزيد عن 70 جمعية، لا أثر لها في الميدان ولا نشاط، رغم تلقيها الدعم الحكومي

في مجال التضامن والعمل التطوعي، احتكرت المشهدَ جمعياتٌ حكومية وأخرى مدنية، تفاوت حضورها بين الجودة والرداءة، والديمومة والموسمية، والجدية والارتجال، لكنها اشتركت جميعها في معطى شراء الذمة السياسية. فالحكومية منها تنشط لتعزيز ولاء المستفيدين من السلطة القائمة، و"المستقلة" تتخذ من العمل الخيري مظلة لتعزيز صفوف الأحزاب التي تنتمي إليها بمتعاطفين جدد.

اقرأ/ي أيضًا: مثقفو الجزائر يدينون حلّ جمعية ثقافية 

في ظلّ هذا الواقع الذي جعل العمل الخيري والتطوعي مشبوهًا، عمل تطور موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في الفضاء الجزائري عام 2010، على تحرير المبادرات المدنية من التبعية السياسية والتثبيط الإداري، فكان من ثمار ذلك إقدام نخبة من الشباب على إطلاق مشروع تطوعي أسموه "ناس الخير".

جامعيون وثانويون ومهنيون وغيرهم، لا ينتمون إلى إطار سياسي معين، ولا يؤمنون بجدوى ذلك، فهم خرّيجو سياق جزائري طبعه الإرهاب والعنف والخيبة في السياسة والسياسيين، شكلوا رابطة معنوية افتراضية، ثم تجسدت في واقع أكثر من محافظة في الجهات الأربع للبلاد، بما أشّر على أن هناك روحًا جديدة داخل المجتمع المدني الجزائري، كانت في انتظار شرارة ما لتنطلق من مكمنها.

من جمع هؤلاء دفعة واحدة؟ من أملى عليهم طبيعة نشاطاتهم؟ من نظّر لهم ووجههم إلى أقاليم ظلت عذراءَ في مجال التضامن والعمل التطوعي؟ من الصعب أن تجد إجاباتٍ محدّدة، بحسب المسرحي عبد الله بهلول، الذي كان من الفنانين السباقين إلى الانخراط في المشروع في محافظة سعيدة، "ما عدا أن هناك عبقرية تحررت من الأسيجة السياسية والإدارية".

يقول بهلول لـ"الترا صوت": "إن هذه الروح كانت موجودة في كل المفاصل المهمة التي عرفها الاستقلال الوطني عام 1962، غير أنها كانت تُجهض في كل مرة، بسبب غياب مشروع حضاري لدى الحكومة والشعب على حدّ سواء، وقد استطاعت البروز مؤخرًا بسبب سلطة مواقع التواصل الاجتماعي، فليس أمرًا بسيطًا أن يتزامن ظهور هذه الحساسية المدنية المتطلعة إلى البناء وتجديد خلايا المجتمع، مع إقدام شباب أكثر من دولة عربية على المطالبة بالحرية، مع اختلاف السياقات". ويختم: "لكن السلطة السياسية تفاعلت سلبيًا مع هذه الروح الجديدة، ولم تستثمر فيها لصالح مشروع حضاري جديد".

كان العمل الخيري والتطوعي مشبوهًا أحيانًا في الجزائر لارتباطه بدواليب السياسة لكن بعض الجمعيات حاولت إخراجه إلى حضن الشباب

اقرأ/ي أيضًا: العمل التطوعي في الأردن.. بأعين شبابه

بادر شباب "ناس الخير" بتنظيف الشوارع والحدائق والأسواق والمقابر والشواطئ والساحات العمومية، وقدّموا نشاطاتٍ ترفيهية لمرضى المستشفيات، وجمعوا الأدوية والأغذية والأغطية للمحتاجين، جزائريين ولاجئين عربًا وأفارقة، ونظموا حملاتٍ لحماية البيئة والمستهلك، والتخفيف من مجازر السرعة في الطرق، والتبرّع بالدم، وانخرط بعضهم في استقبال ضيوف المهرجانات الثقافية والفنية ومرافقتهم، وجمع الكتب المستعملة من البيوت وإعادة توزيعها.

كما حفلت صفحاتهم في "فيسبوك" بنقاشات وحوارات عن دور المجتمع المدني في الحياة المعاصرة، شكلت تحولًا في طبيعة المادة "الفيسبوكية" الجزائرية، علمًا وأن عدد المنخرطين في هذا الفضاء الافتراضي قفز من 200 ألف عام 2010 إلى عشرة ملايين مطلع العام الجاري، بما يشكل ربع عدد السكان في الجزائر.

من أنشطة جمعية ناس الخير الجزائرية(فيسبوك)

كل هذا، في ظل عراقيل واجهتهم بها الإدارة، بحسب أسامة. ب، أحد أعضاء المشروع على مستوى محافظة المدية، 100 كيلومتر جنوبًا، بحيث كانت تربط ترخيصها بالنشاط في أحيان كثيرة بضرورة امتلاكهم اعتمادًا رسميًا، مما اضطر بعض الفروع إلى طلب ذلك من المحافظات التي تنتمي إليها. وعن نظرة الأجهزة الأمنية إليهم يقول أسامة: "إن الأمنيين يحترموننا ويسهلون عملنا، لأنهم وجدوا فينا مرافقين جيدين في حملات التحسيس المختلفة".

سامي، 20 عامًا، متطوع على مستوى الجزائر العاصمة، ينقلنا إلى كواليس تخفى على الكثيرين، منها أن بعض المتطوعين يأتون إلى التطوع في حملة ما، وهم لا يملكون ثمن سيجارة: "كثيرًا ما حدث أن خرجت من البيت وعدت إليه راجلًا، لأنني لا أملك ثمن تذكرة الحافلة أو المترو، وأقضي يومي جائعًا إذا لم يدعني أحد الأصدقاء، لأنني طالب جامعي ومنحتي الجامعية بسيطة لا تكفي". يضيف: "غير أنني بمجرد أن ألتقي أصدقائي ونشرع في فعل الخير، حتى أنسى وضعي المادي وأركز على أوضاع الآخرين".

هنا، يُصبح هذا السؤال مبرّرًا: لماذا لم تتفاعل النخبة الفنية والثقافية والأدبية مع هذا المشروع المدني؟ سواء بالانخراط المباشر أو بالتشجيع المعنوي والإعلامي؟ إذ الملاحظ قلة من فعلوا ذلك، وكثرة المنسحبين بعده؟

يقول الإعلامي والمدون قادة الزاوي لـ"الترا صوت": "إن شطرًا من المثقفين توجسوا من الحركة، وظنوها مناوئة للنظام القائم، وهم ليسوا مستعدين لأن يخسروا مصالحهم معه، وشطرًا تعالى عنها، بسبب أنها مكونة من شباب الأحياء الشعبية، ويرى الانضمام إليهم خدشًا لمقامه، وشطرًا تحكمت فيه روحه السلبية وتفضيله لـ"النضال" في الصالونات ومواقع التواصل الاجتماعي". يلخص فكرته: "في الحالات كلها، كان شباب "ناس الخير" أكبرَ من منتقديهم ومعرقليهم والساخرين منهم، وأنسبَ للمرحلة في تولي زمام العمل الخيري، بعيدًا عن سلبية الحكومة والمعارضة معًا". 

من أنشطة جمعية ناس الخير الجزائرية(فيسبوك)

اقرأ/ي أيضًا:

حرب على الجمعيات الخيرية والإسلامية بتونس؟

المجتمع المدني المصري.. تركة للريح