09-يونيو-2021

كاريكاتير لـ باولو كاليري/ ألمانيا

في خطاب النصر الذي ألقاه الأسد بمناسبة إعادة تنصيبه ملكًا على "إمارة العائلة" التي ورثها عن السيد الوالد، يلمس المراقب حرصًا مرضيًا لدى الرجل على تغنيه بالنصر أضعاف مضاعفة على تغنيه بالبطولة التي قادت إليه. ذلك أن الإشادة بالبطولة على الرغم ما فيها من مكابدة وشقاء وتضحية، تضطر صاحبها للإشادة بمعسكر الأصدقاء، وتلزمه بتقاسم النصر أو الإنجاز المتحقق بين عدد كبير من المساهمين المستحقين، الأمر الذي يجعلها متعارضة مع فكرة المستبد عن النصر، الذي يصر على التعامل معه بوصفه إنجازًا خاصًا به وحده، أو امتدادًا لذاته الكبرى التي لا تقبل تقاسم الحقائق العظيمة وحقائق الخلق والفعل مع غيرها من الذوات الأخرى.

منذ أن نجح حافظ الأسد بتأسيس نظام حكمه العائلي، وهو يحرص على ربطه بالنصر، أو على نحو أدق بالتغلب

منذ أن نجح حافظ الأسد بتأسيس نظام حكمه العائلي، وهو يحرص على ربطه بالنصر، أو على نحو أدق بالتغلب، ذلك أن التأسيس ذاته ما هو إلا سلسلة طويلة من إخضاع المحكومين وتحويلهم إلى رعايا أو مهزومين، الأمر الذي يظهر الحرب أو القمع الشامل مكونًا جوهريًا من مكونات حكم العائلة الحاكمة، حيث إن أي تراخٍ في قبضتها لا يعني في وعيها سوى استبدال الهزيمة بالنصر، بكل ما يعنيه ذلك من خسارة لفردوسه الأعلى "إمارة العائلة"، التي لا يمكن التنازل عن أحقية حكمها أو تملكها إلّا بالنزال والمقارعة. من هنا فإن احتفال الأسد بالانتصار لم يعنِ له سوى شيء واحد؛ استمراره في حكم البلد، وبالتالي هزيمة المشاريع التي راهنت على زوال حكمه أثر القرار الأممي 2254، المتضمن إمكانية زعزعة وجوده الكوني القائم في أعماق حكمه الاستبدادي الذي يرعاه بكل جارحة من جوارحه.

اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد.. استحالة السياسة

لا يأتي بشار إلى النصر ليحتفل بقدرته على الإفلات من مكر التاريخ، الذي حكم على المستبدين بالزوال، بقدر ما يأتي وفي ذهنه شيء آخر عنوانه الانتقام من صنّاعه، وهم في حالتنا هذه الناس العاديون. لذا نراه لا يترك مناسبة تذكر إلا وقد استغلها للحط من شأن وقيمة خصومه عبر إصراره لتنسيبهم إلى المسوخ، سواء تلك التي تنتمي لعوالم الدرك الأسفل السفلي كالجراثيم والطفيليات، أو إلى عوالم العالم الخرافي حيث يتبدى المعارضون أو المحتجون لسياسته، على شكل كائنات أسطورية تحمل في داخلها بذور الدمار للحضارة والاجتماع الإنسانيين، وما كل ذلك سوى رغبته العارمة في تهيئة الأجواء النفسية للعمل على إبادتهم، وإزالتهم من الوجود العياني دون وازع من ضمير أو التزام أخلاقي.

في إطار سعيه المحموم لشيطنة خصومه وتحقيرهم، ينحدر الأسد دون أن يدري إلى مصاف صانعي الانتصارات التافهة، إذ كيف يمكن لرجل عظيم مثله أن يدعي الانتصار الإلهي، فيما لا يتعدى الطابع الوجودي لخصومه طابع الكائنات المجهرية أو المسوخ. وهو الأمر الذي لن يجد له حلًا إلا بتحويل في وضعيات أولئك الخصوم، من كونهم خصومًا فعليين يتمتعون بإرادة حرة إلى مجرد أدوات في آلة شر عظمية، سيحرص على تنسيبها للكوني، كي تليق بعظمة نصره المزعوم.

يجادل البعض أن الأسد في ترسيمه لنفسه ملكًا لسبع سنوات تالية قد حقّق نصرًا مؤزرًا على خصومه اللدودين، لم يمنعه من رفعه إلى مستوى النصر الإلهي، الذي يليق بالمصلحين الكبار أو الأنبياء العظام على النحو الذي تختزله عبارة الصفح النبوية "من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن"، سوى عجزه في القدرة على التسامح مع خصومه، الذي ما أن رآهم في وضعية الهزيمة تلك حتى زينت له نفسه الأمارة بالسوء الهجوم عليهم من باب الثيران والعلف والخوار، الأمر الذي يدفع المرء للتساؤل عن حقيقة الانتصار، الذي يمكن للمستبد أن ينهض به في حالة نجاحه في إعادة ترسيمه نفسه حاكمًا مطلقًا من جديد.

إن القول بانتصار بشار الأسد نوع من العبث، ذلك أن فكرة الانتصار في الصراعات السياسية التي تدور حول الحقوق الفردية للمحكومين لا يمكن أن تفهم إلا ضمن علاقتها بالحرية، أو في مدى قرب الناس أو بعدهم عن حقوقهم كمواطنين كاملي الأهلية. أما التعامل مع الغلبة التي حققها بشار الأسد على شعبه، بلغة الانتصار، إنما هو افتتاء على الحقيقية، فشتان بين إعادة تثبيت المستبد لنفسه حاكمًا أوحدَ مطلق الصلاحيات، وبين النصر الذي يعيد الحقوق إلى أصحابها، ويجعل من الحاكم مجرد عضو في مؤسسة حديثة هي الدولة.   

شتان بين إعادة تثبيت المستبد لنفسه حاكمًا أوحدَ مطلق الصلاحيات، وبين النصر الذي يعيد الحقوق إلى أصحابها

يحق لبشار الأسد أن يزهو بانتصاراته، وبقدرته على إعادة تنصيب نفسه ملكًا لسبع سنوات قادمة، إلا أنه من المبالغة القول إنه قد ربح الحرب، ذلك أن رِبْح الحرب وبغض النظر عن عدالتها أو افتقارها إلى الحق، يتعلق أول ما يتعلق بقدرة المنتصر على إعادة ما دمرته الحرب، كما قدرته على إدارة الموارد المتبقية لديه بفعالية وكفاءة  كي يضمن الحد الأدنى من المستوى المعيشي لمحكوميه في الفترة القادمة. فما الذي تبقى لدى الأسد المنتصر من موارد ليدير بها شؤون الناس التي شاءت الظروف أن يقعوا تحت قبضته، في حين تشير كل التوقعات إلى انحدار البلاد إلى مستوى المجاعة، التي يعجز فيها الناس من الحصول على حصتهم من الخبز إلا عن طريق البطاقة الذكية، وعلى حصتهم من الزيت إلا عبر القليل من الغرامات.

اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد.. عشرون عامًا

يستطيع بشار أن يفاخر بالنصر ويطلق عقيرته تجاه خصومه بالسباب والشتائم كيفما شاء، إلا أنه لن يستطيع الهروب من حقيقته، تحوله من رئيس "إمارة عائلية" إلى مجرم حرب، مدان بـ 900  ألف وثيقة وآلاف صور التعذيب تحت الموت وركام القرى والبلدات والمدن. كما يستطيع التفاخر بوضعيته كمستبد لا يفعل شيئًا سوى معاينة مشاعر المحكومين، وأحاسيسهم بالدونية والتعاسة، ومن ثم تثمير كل ذلك الخراب ليدعم به سياسته العدوانية المنفلته من كل عقل ومنطق وحكمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حين أصبح بشار الأسد أيقونةً لليمين المتطرف في الولايات المتحدة

وسيم الأسد.. اعتباطية السلطة الغاشمة