17-يناير-2023
غرافيتي في بوينس ايرس

غرافيتي في بوينس ايرس

زوربا الأرجنتيني

مارادونا هو مثال على أن يبحث الإنسان على نفسه فينجح في إيجادها، أن يعرف ما يحبّ، وأن لا يكتفي فقط بمعرفة ما يحبّ بل أن يجرأ على القيام به. هذا ليس بالأمر الهيِّن فبعضنا يعيش حياة كاملة دون أن يعرف ما يرغب فيه ويظل يُلبِّي رغبات الآخرين. وحين ينجح عبر رحلة، هي الأصعب على الإطلاق، في اكتشاف ذاته قد يفشل في أن يتصالح مع تلك الرّغبات. أما مارادونا فقد كان ماجنًا عاش حياته بالطُّول والعرض فأدمن المخدّرات والكحول والنّساء وكرة القدم. وكان يقول ما يَجِيش في صدره دون حسابات أو تردّد.

كلنا نود أن نمتلك شجاعة مارادونا وتهوّره في الحياة وفي المباهاة بذلك الأسلوب وهو يقول: "أنا أحافظ على نفسي عبر ممارسة الحب"

 

 نحن جميعنا نرى أنفسنا في رجل مثله جمع بين التّكبر والتّواضع فتسمعه يقول: "أنا لست إله كرة القدم، أنا فقط ألعبها أفضل من غيري". ثم تراه يتصرّف بعنجهيَّة ملك اللعبة ويسمّي نفسه "تشي غيفارا كرة القدم". وتسمعه يجيب بكل نقاء، حين يُسأل عن الضغط الذي يتعرض له، قائلًا: "ليست لدي أي ضغوط، من يعاني من الضغط هو من يجد نفسه مجبرًا على الاستيقاظ باكرًا لتوفير الطعام لأبنائه أما أنا فالوعاء عندي ممتلئ بفضل الله".

وحين يخسر أمام الكاميرون في كأس العالم يعزي نفسه ويتصالح مع تلك الهزيمة قائلًا: "الأفارقة السود انتصروا، إنها رسالة ضد العنصرية البيضاء".

وفي مكان آخر تراه يراقص الكرة مع فيدل كاسترو إحدى رموز التمرد والثورة، ويرفع علم فلسطين ويقول: "أنا قلبي فلسطيني"، ويزور ليبيا حين كانت محاصرة. كل هذا كان يفعله دون حسابات المشاهير التافهة التي تتجمد بموجبها ضمائرهم.

كلنا نود أن نمتلك شجاعة مارادونا وتهوّره في الحياة وفي المباهاة بذلك الأسلوب وهو يقول: "أنا أحافظ على نفسي عبر ممارسة الحب".

الموهبة والحظ هما ما جعلتا من حياة مارادونا حياة حقيقيّة غير مزيّفة. ومن خلالهما تمكَّن من أن يُعيد الكرامة لشعب الأرجنتين بعد أن انهزم في حرب جزر الفوكلاند سنة 1982 أمام الجيش البريطاني. عاد الماجن والشهواني دييغو ليثأر من الأعداء الإنجليز سنة 1986 فيُذلّهم مرّة أولى بهدف من قدمه ومرة ثانية بهدف من يده. وحين اتّهموه بسرقة النصر لم يعتذر أو يخجل بل رفع رأسه عاليًا وجعل من السرقة أمرًا مشروعًا وقال متحديا: "إنها يد الله".

زوربا ليس يونانيًّا كما كتب نيكوس كازانتزاكيس في روايته الخالدة، زوربا الحقيقي هو أرجنتيني؛ زوربا هو دييغو مارادونا.

داخل كل واحد منا ثمّة مارادونا، ولا يمكن أن نعيش حياة جامحة وممتعة وحقيقيّة دون أن نطلق له العنان ليدوس كل القواعد والنَّواميس، ويذلّ الأعداء، ويطير في سماء مغامرة لا نعرف نهايتها. لكننا حينها سنكون مُحلِّقين ولن تعنينا النهاية.

إذا كان الناس، على اختلاف جنسياتهم وأعراقهم ودياناتهم ينظرون هكذا لشخصيّة مارادونا الآسرة والفاتنة، فلك أن تتخيَّل كيف ينظر إليه الأرجنتينيُّون!

ميسي ضحيّة المقارنة القاتلة

يقول إدواردو غاليانو إن "مارادونا لم يكن معبودا فقط بسبب بهلوانيّاته فحسب وإنّما لأنّه كان إلهًا قذرًا، أشد الآلهة بشريّة". هو باختصار "الآلهة البشرية" التي أعادت للأرجنتين وشعبها ما حرمته منهم "آلهة السماء": الكرامة، الكرامة التي نُحِرَت على مذبح الدكتاتورية العسكرية، وأُهدِرَت حين سقط البلد في بئر الفقر السَّحيق وداستها أحذية الجنود البريطانيين في حرب جزر الفوكلاند. وفجأة ومن بين ثنايا هذه المآسي المظلمة انبعث نور دييغو مارادونا مُشعًّا في مونديال 1986. تلك البطولة التي لم يكن دييغو يلعب فيها بل كان يرقص. وحين رفع كأس العالم عاليًا ارتفعت معها رؤوس الأرجنتينيّين وأحسوا بعودة الروح لجسد ميت. كان انتصارًا ملحميًا تجاوز ما هو رياضي ليحفر في أعماق نفوس الملايين في العالم إلى حد الآن. كتب مارادونا خلال ذلك المونديال عملًا إبداعيًا عابرًا للزمان والتاريخ أشبه بإلياذة هوميروس في الأدب.

كرة القدم بالنسبة لشعب الأرجنتين هي جزء من وعيه بذاته وتشكيله لهويته. وبما أن الهوية تحتاج دائمًا حتى يكتمل بناءها لأحداث وأساطير مؤسِّسَة وحتى إنجازات جماعية، فقد كان الانتصار بكأس العالم 1986 أحد هذه الأحداث المُؤسِّسَة

كرة القدم بالنسبة لشعب الأرجنتين هي جزء من وعيه بذاته وتشكيله لهويته. وبما أن الهوية تحتاج دائمًا حتى يكتمل بناءها لأحداث وأساطير مؤسِّسَة وحتى إنجازات جماعية، فقد كان الانتصار بكأس العالم 1986 أحد هذه الأحداث المُؤسِّسَة، وظل الارجنتينيون يفتخرون بهذا الإنجاز وينتظرون تكراره دون جدوى. فمنذ ابتعاد مارادونا عن الملاعب انتكست الأرجنتين وخيَّمت الهزيمة على البلاد في كل مستوياتها السياسية والاقتصادية والرياضية. وفي غمرة الإحباط واليأس يظهر لاعب ساحر هو ليونيل ميسي. سافر من مدينته روزاريو في الأرجنتين ليلاحق حلمه في برشلونة. وهناك بنى مجده الكروي وخطّ اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ كرة القدم. رسم لوحات فنّية بالكرة وأهدى للعالم أجمل المعزوفات الموسيقية الكروية.

ظهر ميسي في زمن لا وجود فيه لحرية تُعطَى للاعبين في الميدان، وصارت مدرسة التكتيك الدفاعي مسيطرة وتُغيِّب مدرسة الهجوم وحرية الإبداع فوق الميدان. اللاعبون أصبحوا أدوات، خالية من الروح الخلاقة، لتنفيذ خطط دفاعية حذرة ومحافظة تصاغ بدقة متناهية خارج الملعب. مدرسة المدربين الميَّالين للدفاع اكتسحت عالم كرة القدم. لقد أصبح الفريق الأقوى هو الفريق الأقدر على المحافظة على نظافة شباكه وليس على التسجيل. في زمن الخوف والحذر ورفض المغامرة في كل شيء بما في ذلك كرة القدم أطلَّ علينا فريق برشلونة، مع مدربه فرانك ريكارد ثم بيب غوارديولا، ليكون النَّقيض لها التيار السائد، وليجسد ذروة الكمال الكروي. وجوهرة ذلك الفريق كان ليونيل ميسي الذي راح يحصد الألقاب الفردية والجماعية ويحطّم الأرقام القياسية واحدا تلو الآخر. كان يندفع من منتصف الملعب ويتلاعب بمدافعي الخصم على الطريقة المارادونية، يجْرِي والكرة لا تفارق رجليه كأنها عضو من أعضاء جسده.

وأمام ذلك الإعجاز الذي أبهر به ميسي العالم كان الأرجنتينيُّون يرَوْنه "المسيح المنتظر" الذي سيُعيد لهم مجدهم الضائع، وأصبحوا يقارنونه بمارادونا. تلك المقارنة لم تكن حافزا لميسي بقدر ما كانت حصارًا كبَّله وعائقا نفسيًّا منعه من أن يُظهر أفضل ما عنده مع منتخب بلاده. فقد كان في بداياته شخصيَّة انطوائية خجولة بينما كان مارادونا شخصًا نزِقًا لا يخفي بذاءته حين يتطلّب الأمر. لنتذكّر هنا كيف انتظر مرور الكاميرا أمامه خلال عزف النشيد الوطني الأرجنتيني في نهائي مونديال 1990 ضد ألمانيا ليشتم الإيطاليين الذين كانوا يطلقون الصافرات من مدرجات ملعب روما. مارادونا كان شخصًا مكروهًا في إيطاليا، باستثناء مدينة نابولي بعد أن لعب في فريقها، وحقق معه عدة ألقاب حتى تحول إلى أيقونة ومعْلَمٍ من معالم المدينة الجنوبية الفقيرة التي أصبحت تقارع أندية الشمال ومن ورائها من أباطرة المال الإيطاليين بفضل قيادة دييغو مارادونا. وهناك أدمن المخدرات وتعدَّدت قصصه النسائية وكانت له علاقة بمافيا المدينة الكامورا. في حين كانت حياة لونيل ميسي هادئة خالية من الصَّخب فهو ابن أكاديمية لاماسيا في مدينة برشلونة التي التحق بها منذ كان في سن الثالثة عشر.

شخصية مارادونا ذات الكاريزما الطاغية تلتهم كل من يُقارَن به بما في ذلك ليونيل ميسي، لأن مقارنة شعب الأرجنتين بين اللاعِبَيْن تجاوزت ما هو كروي، حتى وإن كان ذلك بشكل غير واع، لتكون بحثًا عن تمثيل الشخصية القاعدية الأرجنتينية. ومَن غير مارادونا يمكن أن يمثّل الأرجنتيني المُقبِل على الحياة والشّغُوف بكرة القدم حد الجنون؟! هذه المقارنة كانت عبئًا ثقيلًا وضغطًا رهيبًا على أكتاف ليونيل ميسي حالت دون تحقيقه لكأس العالم حين خسر المباراة النهائية في مونديال سنة 2014، ثم تتالت خيباته بخسارته نهائي كوبا أمريكا 2015 و2016 بضربات الجزاء وكان ميسي قد أضاع ركلته رغم المستوى الرائع الذي أبداه في كل هذه البطولات. انتهت كل هذه الضغوط والنكسات بإعلان ليونيل ميسي اعتزاله اللعب دوليًا مع منتخب بلاده قائلًا: "قصَّتي مع المنتخب انتهت. قاتلت بكل قواي، حاولت ولكن هذا النّهائي الرابع الذي لم أتمكَّن من الانتصار فيه، قمت بكل شيء. هذا يؤلمني أكثر من أي شخص آخر لكن من الواضح أنها ليست لي".

المصالحة وعودة الكأس لأرض زوربا

هكذا كانت علاقة شعب الأرجنتين في بداية فصولها بلاعبهم، علاقة متوتِّرة، لا ميسي تمكَّن من أن ينتزع رضاهم عنه ولا الأرجنتينِيُّون اقتنعوا أنّ هذا الشّاب الموهوب هو أرجنتيني أكثر من كونه إسبانيًا. كان الأرجنتينيُّون دائمًا ما يطالبون ميسي بمزيد من العطاء ويتّهمونه بالتّخاذل رغم كل ما قدّمه لهم. وصل الأمر ببعض الجماهير حد التشكيك في وطنيته وإحراق قميصه. لكن هذه العلاقة تغيّرت منذ سنوات قليلة حين بدأ ليُو يُظهر صفات قياديَّة ويلعب مُتخلِّصًا من الضُّغوط النّفسية، فتمكَّن من الفوز بكأس كوبا أمريكا سنة 2021 الغائبة عن الأرجنتين منذ سنة 1993. واستمرت هذه المصالحة لنصل إلى اللحظة الحاسمة في تاريخ الأرجنتين وميسي: مونديال قطر 2022.

شخصية مارادونا ذات الكاريزما الطاغية تلتهم كل من يُقارَن به بما في ذلك ليونيل ميسي، لأن مقارنة شعب الأرجنتين بين اللاعِبَيْن تجاوزت ما هو كروي، حتى وإن كان ذلك بشكل غير واع، لتكون بحثًا عن تمثيل الشخصية القاعدية الأرجنتينية

بدا واضحًا خلال مباريات كأس العالم أن المنتخب الأرجنتيني هو أكثر المنتخبات رغبة في انتزاع لقب البطولة رغم التَّعثّر في البداية ضد السعودية. انهزمت الأرجنتين في مباراتها الأولى لكننا لم نسمع نقدًا لاذعًا من الجماهير المعروفة بصرامتها وعدم تساهلها أو تقبُّلها لمثل هذه الهزائم. كانت الجماهير لا تطالب ميسي بالفوز بل تتمنَّى رؤيته منتصرًا والفرق شاسع بين الأمرين.

بلد كامل يعيش على وقع قصتهم مع رجل واحد هو ليونيل ميسي عنوانها الحب المتبادل. اقتنع الشعب الأرجنتيني منذ سنوات قليلة أن قائدهم هو نعمة أنعمت بها عليهم السماء، وأنَّ الذَّنْب ليس ذنبه إن لم يفز بكأس العالم بل هي الأقدار التي عاندته والحظّ الذي أدار ظهره للأرجنتين. هذا الإحساس وصل لـ ليونيل ميسي فقدَّم أداء خياليًّا خلال هذه النُّسخة الموندياليّة. لعب مُتحرِّرًا من كل الأعباء وكان المايسترو الذي يضبط إيقاعات السمفونية التي عزفها اللاعبون داخل الملعب والجماهير من المدرجات. فاجأ العالم بتمريرات ومراوغات وانسيابية في الحركة أكَّدت تسيُّده لعبة كرة القدم.

قبل المباراة النهائيَّة كانت هناك حالةٌ من الإجماع العالمي الغريب والجميل مفادها أن ميسي موهبة استثنائية نزلت علينا من السماء لإمتاعنا كل هذه السنوات، وأن الفصل النَّاقص من حكاية ميسي مع كأس العالم هي مسؤُوليَّة السَّماء التي لم تُكمل جميلها بأن تهدي الكأس له ولم تحقّق عدالتها في هذه المسألة. كنت من بين مئات هؤلاء الملايين الذين شجَّعوا الأرجنتين ليس انحيازا لذلك الشعب اللاتيني المُتيّم بعشق الكرة فقط أو انتصارا لموهبة ميسي التي أدمنتها لسنوات فحسب، بل أيضا مدفوعا بـ"حرب التأويلات في كرة القدم" كما قال محمود درويش. لذلك تَلبّستني "حالة مارادُونيّة" متطرّفة في التشجيع وفي استفزاز مشجِّعي الخصم، فالخصم هنا فرنسا بكل إرثها الاستعماري الثَّقيل وعلاقتها المُلتبِسة إلى حدّ اللحظة بعدة دول في جنوب العالم خاصة البلدان الإفريقية، ولا أدلّ على ذلك من طريقة تناول بعض وسائل الإعلام الفرنسية لمباراة النصف نهائي ضد المغرب التي أبَانت عن الغطرسة والنظرة الاستعلائية الدفينة لشعوبنا.

وصلت قصة الأرجنتين والمونديال الطويلة في آخر صفحاتها لقمة شاعِريَّتها ولذروتها الأدبية بصورة فوتوغرافيّة خالدة من ميسي وهو يرفع الكأس وملايين البشر تشكر السماء على عدالتها.

انطلقت الاحتفالات المجنونة في الأرجنتين وانفجر بارود المشاعر الحبيس منذ 36 عامًا تاريخ انتصار مارادونا بآخر مونديال سنة 1986. وفي مشهد مدهش وغير مسبوق رأينا ما بين 4 و5 ملايين أرجنتيني في الشوارع ليس احتفاء بالكأس فقط، بل تخليدًا لحدث مُؤَسِّس جديد في هوية الشعب الأرجنتيني، وفي وعيه بذاته، وهو الفوز بمونديال 2022.

أبدت بعض وسائل الإعلام الغربيَّة امتعاضها معتبرة أن الأمر مبالغ فيه، وقال أحد اللاعبين الفرنسيين أنهم لا يحتفلون بانتصارهم بل بهزيمتنا نحن. ميسي أجاب في ما يبدو أنه تلميح لهذه الانتقادات: "لا تحاولوا أن تفهموها، معك في ما هو سيئ وما هو جيد. أحبك الأرجنتين". منذ سنوات قليلة اهتدى ميسي إلى الطريق المؤدِّية لقلوب الأرجنتينيين. هم لا يُحِبُّون قائدًا هادئًا، يريدون قائدًا شغوفًا ولا يلبس رداء التَّهذيب الأوروبي كما كان ملهمهم دييغو مارادونا.

اختفى ميسي الإسباني فجأة وصار أرجنتينيًا ففاز بكوبا أمريكا وبكأس العالم وبقلوب الأرجنتينيين. وخلّدته أغنية "Muchachos"، التي صارت النشيد الرسمي للجماهير، كبطل قومي إلى جانب مارادونا وضحايا حرب الفوكلاند (المالفيناس):

"وُلِدت في الأرجنتين، أرض دييغو وليونيل، أرض فتيان المالفيناس الذين لن أنساهم أبدًا".