27-نوفمبر-2022
كتاب إدواردو غاليانو

غاليانو وكتابه

يدرك قارئ كتب الإرغواني إدواردو غاليانو بأنّه صاحب أسلوب كتابي فريد، يتميّز بالثراء والإمتاع، ويصعب تصنيفه أو ووضعه تحت عنوان واحد من التصنيفات الأدبية المعروفة.

وغاليانو يمتلك أسلوبًا سرديًا مميزًا وفريدًا في الكتابة يُطلِق عليه اسم "نوافذ القصة"، ويستخدمه في مؤلفاته في سرد العديد من الأحداث والوقائع التاريخية في شكل قصصي قصير وموجز، وكأنّه يضع كلّ حدث منها في مشهد مستقلّ ويطلّ عليها من خلال نافذة الكتابة.

لا يتعامل غاليانو في كتابه مع تاريخ كرة القدم باعتباره تاريخًا منفصلًا عن تاريخ العالم، بل يؤكد على ذلك الارتباط الوثيق بينهما

"كرة القدم بين الشمس والظلّ" كتاب لم يخرج فيه غاليانو عن أسلوبه المعهود في الكتابة، حيثُ عمل فيه على تتبّع تاريخ كرة القدم وأحوالها منذ كأس العالم عام 1938 وحتى مونديال عام 1994، وذلك في نوافذ قصصية موجزة، بدأ فيها بتتبّع كرة القدم منذ أن كانت مجرّد هواية، إلى أن أصبحت صناعة تدرّ الملايين، وتُستثمر فيها الأرباح الفلكية، وتجري في أروقتها الصفقات.

واللافت في الصفحات الأولى في كتاب غاليانو هو أنّه يُعيد مَفهمة وتعريف المفاهيم الرئيسة في اللعبة، ويأتي وكأنّه يبني قاموسه الخاصّ فيما يتعلّق بها، فالحَكم عند غاليانو هو "الطاغية البغيض الذي يمارس دكتاتورية دون معارضة ممكنة، والجلاد المتكبر الذي يمارس سلطته المغلقة فيما الصفارة في فمه؛ حيثُ ينفخ الحكم رياح القدر المحتوم". واللاعب في نظره هو الذي "يركض لاهثًا على شفير الهاوية. في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار". أما حارس المرمى فهو في منطقه "البوّاب، والغولار، وحارس حاجز، وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد، الوثن، النادم، أو المهرج الذي يتلقى الصفعات، ويقولون إنّ المكان الذي يطأه لا ينبت فيه العشب أبدًا"، والجول كما يراه "ذروة المتعة في كرة القدم، ومثل ذروة التهيج الجنسي".

إنّ غاليانو الذي اشتهر بأنّه كلما كان مشغولًا بالفرجة في بيته، يضع على بابه ملصقًا ويكتب عليه: "مغلَقٌ من أجل كرة القدم"، لا يتعامل في كتابه مع تاريخ كرة القدم باعتباره تاريخًا منفصلًا عن تاريخ العالم، بل يعمل على طول صفحاته على تأكيد ذلك الارتباط الوثيق بين تاريخ كرة القدم وتاريخ العالم، فهو يحرص على توضيح أنّ كرة القدم طالما كانت وسيلة استخدمتها الحكومات الدكتاتورية المناهضة للديمقراطية في تقديم نفسها كممثلة للشعب والوطن وناطقة باسمهما، وعن ذلك يذكر حادثة فوز إيطاليا بمونديال عام 1938، عندما حصل اللاعبون على الكأس، باسم وطنٍ يمثله موسوليني، وكانوا يُجبرون في بداية ونهاية المقابلات، على توجيه التحية الفاشية (رفع اليد مفتوحةً تحيَّة للدوتشي).

ولا يكتفي غاليانو في كتابه بتسليط الضوء على الجانب الأسود لكرة القدم كوسيلة احتكرتها الحكومات الدكتاتورية وقدّمت نفسها من خلالها للعالم، بل إنّه يَعمل على تبيان الجانب المضيء من اللعبة باعتبارها وسيلة من وسائل المقاومة التي استخدمتها الشعوب في مناهضة القوى الدكتاتورية والاحتلال والاستعمار، ويَسرد عن ذلك ما قام به لاعبو نادي "دينامو كييف" السوفييت في عام 1942، الذين وجّه إليهم الاحتلال النازي الألماني تحذيرًا آنذاك وحذرهم فيه من مغبة الفوز على المنتخب الألماني، حيثُ قيل لهم: "إذا انتصرتم، ستموتون"، ورغمَ ذلك  دخل السوفييت إلى الملعب مستسلِمين، مرتعشين من الخوف، ولكنهم لم يستطيعوا تقبُّل فقدان كرامتهم، ففازوا وتمَّ إعدامهم بقمصانهم الرياضية.

ورغمَ أنّ غاليانو حشد في كتابه مجموعة كبيرة من الذكريات واللحظات الساحرة حول كرة القدم، إلا أنّه لم ينسَ أن يوجّه نقدًا لاذعًا لاحتلال مساحة العشب الخضراء تلك من قبل لوبيات تجارية، تنضوي إلى الرأسمالية الشجعة، وتطفّل على كرة القدم، كما وأنّه أدان في كتابه خضوع الأندية الكروية لسلطة الأوليغارشية المالية، وأشار إلى امتعاضه من فساد الفيفا والاتحادات القطرية، ومن وجود مشجعين في صورة ألتراس متعصب بدل الجمهور المحتفي والسعيد الذي كان متواجدًا في زمن العصر الذهبي للكرة.

وصف غاليانو نفسه في مقدمة كتابه بأنّه مجرّد متسوّل يطلب كرة قدم جيدة، وفعلًا فقد ظهر في صفحات الكتاب ناقدًا لكلّ أفعال الرداءة التي تأتي لتشوّه الوجه الأبيض المضيء للعبة كرة القدم، والتي تعمل على تفريغها من صفتها كلعبة للمرح والاستمتاع، وتحوّلها إلى مجرّد استعراض تجاري جالب للربح، أو كما عبّر عن تُحوّلها إلى عمل تجاري "لا يتمّ تنظيمه من أجل اللعب وإنما من أجل منع اللعب!".