22-ديسمبر-2022
احتفالات الأرجنتين

بعد انتهاء مونديال قطر، أُمضي وقتًا طويلًا في مشاهدة احتفالات الأرجنتينيين في بيونس آيرس. شعب يفرح كما الأطفال بفوز منتخبهم بكأس العالم، الحشود منفلتة العقال والناس لا يتوقفون عن الغناء.

ذاك الإيمان الماورائي الغامض، ربّما يفسّر الفرح الجنوني للشعب الأرجنتيني بإحراز ميسي ورفاقه كأس العالم

أشكال تعبيراتهم عن السعادة من الصعب أن نجدها بالدرجة نفسها في أوروبا الرصينة ذات التقاليد العاطفية الأقل سخونة، دون بخس لأساليب تشجيع الألتراس هناك واحتفالاتهم في الملاعب وخارجها.

وهكذا يصعب عليّ النظر إلى التباينات بين مدرستي أوروبا وأميركا الجنوبية في كرة القدم، والتمعّن في درجة الاندفاع مقابل التحفظ، والمغامرة مقابل الحكمة، والارتجال مقابل الآلية، والاحتمالات الحيّة مقابل الحتمية المملة، دون رؤية ملامح انقسام العالم إلى شمال وجنوب. فتلك المدرستان تمثّلان التقابل بين الصنعة والغريزة وفق ثنائية سيوران.

وعلى الرّغم من أنّ الصنعة الأوروبية تعتني بالغريزة اللاتينية وتربّيها في ملاعبها، وتلقّنها الاحتراف والانضباط والالتزام بتعليمات المدرب والامتناع عن مجرّد التفكير بتعاطي المخدرات، وأنّ تلك الغريزة تحلم منذ طفولتها بالسفر إلى ديار الصنعة للهرب من الأحياء الفقيرة وحصد الشهرة وجني المال وإرساله إلى العائلة، إلّا أنّ النزعة البريّة لدى اللاعبين اللاتينيين تطغى في أحيان كثيرة، لنلاحظ أنّ الموهبة تتذمر أثناء صقلها من صاقلها مدركةً في الوقت نفسه ضرورة الصقل، فتعيش في نزاع بين الصنعة والغريزة ما يلبث أن يتحول إلى توازن، والتوازن إلى نبع للمتعة ووصفة للنجاح.

إلى أن يحين موعد العودة إلى المنتخبات الوطنية، عندئذ تتفجّر الموهبة في الأرواح التي لا تتعب من الجري، وتقاتل من أجل الفوز بنزق واستبسال وبعض البذاءة. لكنّها قد تفقد التوازن فتتخبط وتضيع تحت ضغط الانتماء والذاكرة المتخمة بالخيبات، لنراها تعترض على الحكّام، وتضيّع الفرص السهلة، وربما يغمرها الإحساس بالفوز قبل نهاية المباراة فيكلّفها ذلك انقلاب النتيجة بلحظات وتجرّع مرارة الخسارة.

احتفالات الأرجنتين

تلك الطباع التي في جوهرها لا توائم العلم ولا تنال رضى أسس التقدم وأصول العقلانية، تعكس إيمانًا عميقًا بما فوق الواقع، وبالسحر كقوة رديفة للعمل، يمكنها أن تقلب الأقدار وتُحدّد نتيجة المباراة بمعناها الواسع الذي يشمل مصير الإنسان ككل. وهذا السحر ينتمي لعالم الجنوب، حيث العقل والانضباط والعلم ليست وحدها حوامل الفوز والتقدّم بمفهومه الحداثي "الشمالي". ومن هنا لا غرابة في تأسيس عشرات الساحرات الأرجنتينيات مجموعات على مواقع التواصل، للعمل سويّة على درء العين عن ميسي ليعود بالكأس.

ذاك الإيمان الماورائي الغامض، ربّما يفسّر الفرح الجنوني للشعب الأرجنتيني بإحراز ميسي ورفاقه كأس العالم. يقول الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن، في مقاله الوضّاء "السحر والسعادة" (ترجمة: سامح سمير)، المنشور في كتاب Profanations الصادر عام 2005، بأنّ ما نستطيع تحقيقه عن طريق الجهد والجدارة، لا يمكنه أن يجعلنا سعداء بحق، وحده السحر هو الذي يقدر على ذلك. ويشير إلى أنّ موتسارت اكتشف الرابطة بين السحر والسعادة، حين كتب في رسالة إلى صديق "الحياة الكريمة والحياة السعيدة شيئان مختلفان كل الاختلاف، ولا سبيل لبلوغ العيش السعيد إلّا عن طريق نوع من السحر، ولكي يتأتى هذا لا بدّ من وقوع حدث خارق بحق". لذا كانت كل هذه السعادة لأنّه كان فوزًا غير واقعي، كان عدلًا وانتزاعًا من التاريخ.

ويُضيف أغامبن بأنّ تلك الحكمة الطفولية، التي يؤمن بها الكثير من مشجعي كرة القدم، "تشدّد على أنّ السعادة ليست شيئًا يُمكن أن نناله عن جدارة واستحقاق"، تلك الحكمة الطفولية لطالما "كانت تقابَل بالاعتراض من جانب النزعة الأخلاقية السائدة".

كذلك يورد أغامبن رأي كانط بين الحياة الكريمة والحياة السعيدة "ثمة شيء بداخلك يسعى وراء السعادة، هذا هو الهوى، وفي المقابل، ثمة شيء آخر يقيد هذا الهوى ويرهنه باستحقاقك للسعادة وجدارتك بها، ذلك هو العقل". ربما القول بأنّ أميركا الجنوبية تمثّل الهوى وأوروبا تمثّل العقل، فيه قدر كبير من الاختزال، إلّا أنّ هذا الاختزال يُقدّم نفسه هنا كإجراءٍ قد يُعيْن على تشرّب الظاهرة اللاتينية في كرة القدم، أكثر من كونه حقيقةً متصلّبةَ الأطراف.

وهكذا مثل امرأة مغرومة، عشقت الجماهيرُ المنتخبَ و"يا لهول أن تعشقك امرأة لا لشيء إلا لكونك جديرًا بذلك! وكم هو مضجر أن تنال السعادة كمكافأة عن عمل أديته بإتقان"، يقول جورجيو أغامبن.

احتفالات الأرجنتين

حتى الموهبة هنا، هي هبة من الله، تُسخّر لتمجيد اسم الأمة، فيبعث لها ميسي ومارادونا، الذي رفع "يد الله" وسجل بها هدفًا في مرمى إنجلترا في مونديال المكسيك 1986، أسعدَ الشعبَ أكثر من كلّ الأهداف المستحقة، لأنّه غير مستحق، لأنّه عمل سحريّ، جعل ما حصل يتجاوز الفوز على المنتخب الإنجليزي ويصل للانتقام من استعمار إنجلترا جزر الفوكلاند الأرجنتينية.

ماردونا الذي اقترح في التسعينيات تنظيم مباراة كرة قدم يلعب فيها مع العراق ضد الولايات المتحدة، قال "سوف نرى من ينتصر في النهاية، لا بدّ أن ينتصر الأولاد المحرومون من الغذاء والدواء". لا يمكن لماردونا أن يفهم العالم إلّا على هذا النحو، إنّه يرفض أن يفهم العالم بطريقة مغايرة، يرفض أن يكون العالم غير عادل، لذا يعتقد بأنّ الحق من سيحدد المنتصر وليست القوة.

هكذا مثل امرأة مغرومة، عشقت الجماهيرُ المنتخبَ و"يا لهول أن تعشقك امرأة لا لشيء إلا لكونك جديرًا بذلك

وهكذا لأنّ السعادة بحسب أغامبن، يمكن أن تكون لنا فقط من خلال السحر حين ننتزعها من يد الأقدار، كانت الأرجنتين فخورة بفوز مستحق، سعيدةً بفوز غير مستحق.