05-سبتمبر-2019

تحمل الخلافات داخل العدالة والتنمية دلالات مركبة (Getty)

لم تكن بوادر الخلاف بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الحكومة الأسبق أحمد داود أغلو واضحة للرأي العام التركي رغم الهمس الذي كان يثار حولها بين فترة وأخرى، إلا أن القرارات التي اتخذها العدالة والتنمية بعد نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة التي أفضت لفوز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو بمنصب رئاسة بلدية أسطنبول الكبرى، كان من شأنها أن تعيد الخلاف بين الاثنين للواجهة مجددًا.

على الرغم من أن التوقعات تقول بعدم استطاعة أي حزب جديد امتلاك القوة نفسها المسجلة للعدالة والتنمية في بداية انطلاقته، فإن توجه شخصيات سياسية لتشكيل أحزاب جديدة ليس مطمئنًا للعدالة والتنمية

خلافات سابقة.. واستقالات متتالية من العدالة والتنمية

وطبيعة الخلاف بين أوغلو وأردوغان ترجع لعام 2016 عندما أعلن أوغلو تنحيه عن منصب رئيس الوزراء في مؤتمر الحزب الاستثنائي الذي عقد في أيار/مايو من العام عينه، وأشارت تقارير حينها إلى أن رفض أوغلو تحويل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، وسحب سلطة تعيين مسؤولي حزب العدالة والتنمية في الأقاليم التركية من أوغلو الذي استلم منصب رئاسته عام 2014، كانت من بين الأسباب التي دفعته لتقديم استقالته من منصبه، وتعهد حينها بعدم توجيه النقد لسياسة الحزب.

اقرأ/ي أيضًا: الجدول الزمني لصعود وهبوط الانقلاب في تركيا

لكن الحال تغير بالنسبة للصمت الذي أراد أوغلو الالتزام به بعد قرار لجنة الانتخابات العليا التركية بإعادة الانتخابات على منصب رئاسة بلدية أسطنبول الكبرى، التي خسرها العدالة والتنمية أمام الشعب الجمهوري للمرة الثانية، ووصل الفارق فيها لما يقارب 10 نقاط بعد أن كانت في الانتخابات الأولى بنسبة ضئيلة لا تتجاوز 0.02 بالمائة، الأمر الذي اعتبره مراقبون انقلابًا على الديمقراطية التي تعد أهم مقومات الجمهورية التركية الحديثة.

عادت الأزمة الحالية بين أوغلو وأردوغان من جديد بعد الانتقادات التي وجهها أوغلو للحزب الحاكم عقب إقالته رؤساء بلديات ديار بكر وماردين وفان بسبب انتمائهم لحزب الشعب الديمقراطي المؤيد للأكراد، وانتقاده لقرار الداخلية التركية عبر حسابه على تويتر بالقول إن القرار لا يتسق مع الديمقراطية التركية، وإن وصولهم لمنصبهم في رئاسة البلدية هو "شرط لمبدأ الإرادة الوطنية".

وتعمّق الخلاف أكثر بعد التصريحات النارية التي أدلى بها أوغلو في وقت سابق من الشهر الماضي خلال كلمة له حين قال إن: "كثيرون سيخجلون من النظر في وجوه الناس، إذا فتحت دفاتر مكافحة الإرهاب، وستسودّ وجوه كثيرة"، مشيرًا إلى ملف مكافحة الإرهاب الذي بدأته الحكومة التركية التي كان رئيسها بين حزيران/يونيو وتشرين الثاني/نوفمبر من العام 2015، وهي الفترة التي خسر فيها العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية في الانتخابات، قبل أن يدعو أردوغان إلى انتخابات مبكرة، ويستعيد ما خسره حزبه تقريبًا، حيثُ شهدت تلك الفترة انتهاء اتفاق السلام بين العمال الكردستاني والحكومة التركية، وبدأت القوات التركية عمليات عسكرية في شرق البلاد.

العدالة والتنمية.. استقالات متجددة

ولا تقتصر أزمة العدالة والتنمية على تصريحات أوغلو، إنما امتدت لتشمل ثلاثة أعضاء في الحزب الحاكم هم: الحقوقي والبرلماني السابق سفر أوستون، والبرلماني السابق عبد الله باشجي، ونائب الأمين العام السابق سلجوق أوزداغ، بعد إحالة أربعتهم للجنة الانضباط بإجماع أعضاء القيادة المركزية تمهيدًا لطردهم من الحزب، وعلل العدالة والتنمية القرار بالاستناد إلى أحد بنود النظام الداخلي التي تعاقب بالطرد كل من يلجأ إلى الإعلام للتشهير بحق قيادات وأعضاء وشخصيات اعتبارية، وتقديم معلومات زائفة غير حقيقية، والتقليل من هيبة وشأن القيادات الحزبية.

وكان علي باباجان الذي شغل مناصب وزارية مختلفة عندما كان أردوغان رئيسًا للحكومة قد أعلن قبل قرابة شهرين استقالته من العدالة والتنمية، مرجعًا السبب لما وصفه "خلافات عميقة جدًا" نتيجة ظهور عدة قضايا في السنوات الأخيرة تخالف القيم والمبادئ التي يؤمن  بها جعلته يبتعد عقًلا وقلبًا عن الحزب، فيما قال أردوغان حينها إن أبرز نقاط الخلاف مع الوزير الشاب – كما وصفه أردوغان – كانت مرتبطة بالسياسة الاقتصادية المتعلقة بخفض الفوائد.

وفي الوقت الذي تحدثت مجمل التقارير عن توجه باباجان بالاشتراك مع الرئيس الأسبق عبد الله جول لتشكيل حزب جديد في تركيا، كشفت تقارير منفصلة أنه جرى خلال الأيام الأخيرة من الشهر الفائت تسجيل حزب سياسي تركي جديد باسم "الحياة والعدالة" في هيئة براءات الاختراع وحقوق ملكية العلامات التجارية التركية، فضلًا عن وجود تقارير تتحدث عن نية داود أوغلو تشكيل حزب جديد منفصل عن الحزب الذي يسعى لتأسيسه باباجان/غول، وهو ما سينعكس سلبًا على شعبية العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة.

مخاوف العدالة والتنمية من نشوء أحزاب منافسة

كشفت الاستقالات التي بدأتها قيادات في العدالة والتنمية منذ إعلان لجنة الانتخابات العليا إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول مرًة ثانية بعد الطعون التي قدمها الحزب الحاكم عن تراجع شعبية الأخير ليس على مستوى الناخبين المستقلين إنما على الأصوات الناخبة في أبرز معاقله، فقد وصل عدد الأقضية التي فاز بأصواتها لـ11 قضاء فقط، بعدما كانت في الانتخابات الأولى 25 قضاء، وكان أبرزها أقضية فاتح وأسكودار وبايرم باشا وأيوب سلطان التي تصنف ضمن الحاضنة الشعبية للعدالة والتنمية، الأمر الذي أثار مخاوف قيادات الحزب بالأخص أردوغان من نتائج الانتخابات المقبلة التي تجري بعد نحو ثلاثة سنوات، وهو ما يؤثر على طموحات أردوغان السياسية التي تنتظر انتهاء اتفاقية لوزان في عام 2023.

وعلى الرغم من أن التوقعات تقول بعدم استطاعة أي حزب جديد امتلاك القوة نفسها المسجلة للعدالة والتنمية في بداية انطلاقته، فإن توجه شخصيات سياسية لتشكيل أحزاب جديدة ليس مطمئنًا للعدالة والتنمية بحسب ما يرى مراقبون، الذين بنوا توقعاتهم على عوامل الاستقطاب وتقارب الحظوظ في الجولة الانتخابية الأخيرة، فضلًا عن توحد بعض قوى المعارضة مؤخرًا.

ويمكن القول إن توقعات المراقبين صائبة بطريقة أو بأخرى كون الانتخابات التي شهدت فوز أردوغان من وراء العدالة والتنمية سابقًا، أي قبل تحول النظام السياسي إلى رئاسي، كانت أبرز أسبابها انقسام أحزاب المعارضة التركية فيما ينهم، أكثر من النمو الاقتصادي الذي كانت تعيشه تركيا، ويعد فوز إمام أوغلو ببلدية إسطنبول مثالًا حيًا على المخاوف التي يبديها العدالة والتنمية من الانتخابات المقبلة، إضافة لما يتمتع به غول من شعبية في الأوساط المحلية التركية.

وكانت هناك مخاوف سابقة لدى قيادات العدالة والتنمية من دخول غول سباق الانتخابات الرئاسية الأخيرة قبل أن يعدل عنها بتصريح صحفي ما كان سيؤثر سلبًا على نتائج الانتخابات لصالح أردوغان، أما في الانتخابات المحلية التي حصل فيها إمام أوغلو على رئاسة بلدية إسطنبول، كان وراءها الدعم الذي حظي به من كبرى أحزاب المعارضة الشعب الجمهوري، فضلًا عن تصويت أنصار حزب الخيّر الذي يمثل الناخبين من يمين الوسط والقوميين الأتراك، وحزب الشعوب الديمقراطي ممثلًا بالناخبين القوميين والليبراليين الأكراد، وبشكل غير مباشر أنصار حزب السعادة.

كما أنه يوجد انطباع بدأ يأخذ شكلًا أوسع في الحياة التركية يشي  إلى أن حكومة العدالة والتنمية لم تعد قادرة على إدارة الشؤون العامة بحسب الكاتب بكر صدقي في مقال له نشر في موقع تلفزيون سوريا، ويضيف في هذا الشأن موضحًا أن فقدان الثقة آخذ بالاتساع بين العدالة والتنمية وجمهوره،  وينذر بتراجع مطرد لشعبيته، لذلك لا يقتصر انتقاد عيوب النظام الرئاسي على المعارضة أو على حركة الانشقاقات المتوقعة، بل يشمل أيضًا أصواتًا موالية داخل الحزب.

ويوضح أن هذه الأصوات بدأت تحسب حسابًا لاحتمال ألا يحصل الحزب الحاكم في أول انتخابات رئاسية قادمة على نسبة 50 بالمائة +1 التي يحتاجها المرشح للفوز بكل السلطة. فليس هناك ما يضمن استمرار التحالف مع حزب الحركة القومية الذي لولاه لفشل العدالة والتنمية في الحصول على أكثر من نصف أصوات الناخبين. كما أن الانشقاقات المتوقعة ربما تجرف معها قسمًا من نواب الحزب في البرلمان، فيفقد بذلك الغالبية المطلقة، وكذلك قسمًا من ناخبي الحزب التقليديين، ما قد يدفع المعارضة التركية بالدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، وهو الأمر الذي تخشى قيادة العدالة والتنمية حصوله.

اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات التركية.. فرصة "الرجل الواحد" للتفكير في الجميع

أسباب خسارة إسطنبول واستقالة قيادات العدالة والتنمية

عند البحث عن الأسباب التي دفعت إلى تراجع شعبية العدالة والتنمية في إسطنبول خاصًة، وباقي الولايات التركية عمومًا، يمكن لمس مجموعة من النقاط التي أفضت لخسارته أهم بلديات الولايات الكبرى، فقد كان من أهم هذه النقاط المناظرة التلفزيونية بين مرشح العدالة والتنمية بن علي يلدريم، والفائز بالانتخابات إمام أوغلو، إذ عمد يلدريم للتغني بإنجازات العدالة والتنمية على مدار الأعوام الـ17 في إسطنبول، فيما ظهر منافسه بحيوية شبابية تمكن فيها من مخاطبة جميع شرائح الشعب بما فيهم المحافظون الذين بدد مخاوفهم من خلال تعهده بمواصلة منع الاختلاط في مسابح البلدية وعدم بيع المشروبات الكحولية في المؤسسات الاجتماعية.

عادت الأزمة الحالية بين أوغلو وأردوغان من جديد بعد الانتقادات التي وجهها أوغلو للحزب الحاكم عقب إقالته رؤساء بلديات ديار بكر وماردين وفان بسبب انتمائهم لحزب الشعب الديمقراطي المؤيد للأكراد

وبرزت كذلك المظلومية التي تعرض لها إمام أوغلو في نتائج الانتخابات الأولى بعد سحب وثيقة الفوز منه، الأمر الذي يعد غير مقبول لدى الشارع التركي لما يمثله من خطورة على جذور الديمقراطية التي  تقوم عليها الجمهورية التركية، وأرفق ذلك وصف أردوغان لإمام أوغلو بأنه "سيسي تركيا" في إشارة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين خيّر الناخبين باختيار يلدريم أو السيسي، كما أن محاولة أردوغان الاستعانة بزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان الذي طالب الناخبين الأكراد بالوقوف على الحياد انعكست سلبًا على نتائجها، وساهمت بنزيف أصوات المحافظين والقوميين لصالح إمام أوغلو.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف خسر أردوغان الليبراليين؟

7 استفتاءات دستورية في تاريخ تركيا الحديث.. ماذا تعرف عنها؟