17-يناير-2021

الكاتب التشيكي إيفان كليما (ألترا صوت)

تكمن قوة الأدب في جعل الموتى أحياء، ومنع الأحياء من الموت. اكتشف الكاتب التشيكي إيفان كليما (1931) هذه الحقيقة تحت تأثير عوامل عدة، هي: استعادة ذاكرته بشكلٍ مستمر لما اختبره داخل معسكرات الاعتقال النازية، الخوف من الموت تحت تأثير ما تستعيده ذاكراته، وقراءته "الحرب والسلم" لتولستوي، في محاولةٍ منه للخلاص من مضاعفات العامل الأول والثاني.

يقول إيفان كليما إنه ثمة في أعمال كافكا ما يتجاوز كونه مجرد صور مخترعة اختراعًا ذكيًا، إنه شيء يهزنا ويستحوذ علينا

ثلاثة عوامل تضافرت وأفرزت هذه الحقيقة التي أدركها كليما في عمرٍ مبكر، ولكنها لم تأخذ منحىً أكثر جدية، إلا عند اختباره نموذجًا جديدًا من العزل القسري الذي اختبره في معسكرات الاعتقال النازية، وهو النموذج السوفييتي القائم على تحويل "الغرفة" إلى معسكر اعتقالٍ مصغر، الغاية منه ليس تهيئة الفرد للموت، وإنما عزله وتطويعه بحيث يكون فارغًا من المعنى، مغتربًا عن ذاته، ومعزولًا عن الحياة العامة أيضًا، الأمر الذي يسهل عملية تدجينه وإلغاء خطره المحتمل.

اقرأ/ي أيضًا: إيفان كليما في "حبّ وقمامة".. تقليص وجود الإنسان إلى عدمية النفايات

وسط هذه الظروف البائسة الناتجة عن الاجتياح السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، وفرض سلطات ما بعد الاجتياح واقعًا جديدًا كان كليما أحد ضحاياه، بعد منع تداول كتبه، وحرمانه من النشر والسفر، بالإضافة إلى إجباره على العمل في وظائف وضيعة بهدف إذلاله ومعاقبته على مواقفه السياسية؛ أعاد مؤلف "حب وقمامة" اكتشاف قوة الأدب، ولكن بينما يكتب هذه المرة.

ما الذي كان كليما يكتبه آنذاك؟ قصص ومسرحيات ونصوص مختلفة، لا نعرف أي تفاصيل عنها، باستثناء الكتابة عن فرانز كافكا، أول ما يضعنا أمامه كليما في روايته "حب وقمامة"، إذ نتعرف على البطل الذي يحمل الكثير من صفاته وملامحه، بل يمكن القول إنه كليما نفسه، وهو يقترب من إنهاء مقالة حول كافكا. صحيح أننا لن نعرف شيئًا عن مضمون المقالة، ولكن تتبّع حديث البطل/ كليما عن مؤلف "المسخ"، من شأنه أن يعطينا تفاصيل وافية عن نظرة الكاتب التشيكي لمواطنه الذي رحل قبل ولادته بسبع سنوات.

قراءة البطل/ كليما لكافكا، أو نظرته إليه، مرتبطة باللحظة الراهنة من جهة، وهي لحظة بالغة القسوة، وما تستعيده ذاكرته من أحداثٍ بعيدة متعلقة بتجربته في معسكرات الاعتقال، من جهةٍ أخرى. وهما عاملان يفرضان بالضرورة مناخًا معينًا يهيمن على طبيعة وكيفية القراءة، مما يعني أنها قراءة/ نظرة ناتجة عن تفاعل كليما مع أعمال لكافكا في لحظة وسياق معينين.

لم يكن فرانز كافكا يكتب بهدف الهروب من عذاباته فقط، وإنما ليتمكن من العيش أيضًا

يقول إيفان كليما إن أول قصة قرأها لكافكا كانت تتحدث عن رحالة، أراد ضابط في إحدى الجزر أن يريه آلة إعدامٍ غريبة صنعها بنفسه، ولكن الآلة تعطلت أثناء العرض بشكلٍ مفاجئ، مما جعل الضابط يشعر بنوعٍ من الخزي، دفعه لوضع نفسه على كرسي الإعدام. ويركّز صاحب "لا قديسون ولا ملائكة" على طبيعة وصف كافكا لتفاصيل الآلة الفظيعة، ويصف اللغة التي اعتمد عليها الأخير في سرده للأحداث بـ "التقريرية الباردة"، مرجعًا السبب إلى اعتقاد كافكا بأنه، عبر هذه اللغة، يستطيع أن يحجب الغموض والمفارقة غير المفهومة في الأحداث التي قام بسردها.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "1970" لـ صنع الله إبراهيم.. لا جديد يُقال عن عبد الناصر

يذكر كليما أنه فهم قصة كافكا هذه بشكلٍ سطحي، إذ بدا له الضابط المتحمس لعمليات الإعدام في القصة، صورة إشكالية للضباط الذين قابلهم في معسكرات الاعتقال، أو صورة أولية لضابط محدد لا يأتي على ذكر أي تفاصيل عنه، ولكنه يشير هنا إلى قدرة الأدب لا على إعادة من ماتوا إلى الحياة فقط، وإنما على قدرته على التنبؤ بملامح أولئك الذين لم يولدوا بعد.

يمكن التعامل هنا مع ذكر الكاتب التشيكي للحادثة السابقة، في استهلال حديثه عن نظرته لكافكا، باعتباره إشارة إلى فكرة أن كل نص يأتي محملًا بمعاني لا نهائية، وأن لكل قراءة فرادتها وخصوصيتها عندما ترتبط بظروف معينة، وهذا ينطبق على جميع ما سيذكره عن كافكا، طالما أنه يأتي نتيجة تفاعله معه على وقع ما يحدث في محيطه من تضييق وعزل، تمارسه سلطات ما بعد ربيع براغ، بالإضافة إلى استعادة ذاكرته لتجربة معسكرات الاعتقال.

يكتب إيفان كليما عن فرانز كافكا لأسبابٍ بسيطة وشخصية، أهمها أنه يحبه من جهة، ويشعر بأنه يحاوره بشكلٍ شخصي ومباشر من ماضيه البعيد، من جهةٍ أخرى. ويذكر كليما في سياق حديثه، أن صاحب "القضية" يعد أقل الكتّاب التشيكيين اهتمامًا بالسياسة والشؤون العامة أيضًا، مُعيدًا سبب الهجمة التي تعرض لها خلال ستينيات القرن الفائت في دول المنظومة السوفييتية، إلى سببٍ بسيط وغريب في آنٍ واحد، وهو: صدقه.

ويذكر كليما أن علاقة كافكا بمدينته براغ، وبلده التشيك، علاقة غريبة تتقاطع مع علاقته مع النساء، إذ إنه كان دائم الرغبة بالهرب من المدينة، تمامًا كرغبته بالهرب من لعزوبته، ولكنه لم يستطع، وبحسب تعبير كليما، على انتزاع نفسه منها، تمامًا كفشله في إقامة علاقات عاطفية سليمة وسوية. ولكن براغ، في المقابل، زودته بأكثر من مجرد خلفية لقصصه، بالإضافة إلى أنها: "غمرته بما فيها من تعدد الأصوات، بحنينها وغسقها وضعفها"، تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى دور النساء في أعماله الأدبية.

بالإضافة إلى أن نظرة كليما إلى كافكا هي نتاج تفاعله معه في ظروف معينة، إلا أنها أيضًا قائمة، في جزءٍ كبير منها، على انطباعاتٍ شخصية عاطفية وحميمية جدًا، دفعته إلى القول بأن صاحب "القلعة" لم يكن يكتب ليهرب من عذاباته فقط، وإنما ليتمكن من العيش أيضًا. وبحسب تعبيره، لم يكن الأدب عند كافكا شيئًا خارجيًا يستطيع استكشافه أو فصله عن نفسه، وإنما صلاة، وهذه العبارة هي واحدة من العبارات القليلة التي كتبها عن معنى الأدب عنده.

يرى كليما أن كافكا، مع صدقه كله، لم يكن قادرًا على الكتابة إلا عن أشياء عاشها بنفسه

يقول كليما إن كافكا: "نقل السؤال إلى حيز آخر: ما هي الصلاة؟ ما معناها بالنسبة له، هو الذي ما كان عنده إلا إيمان قليل جدًا بأي إله يؤمن به الناس أو يقبلونه عامة؟ الأرجح هو أنها كانت سبيلًا إلى اعتراف شخصي صادق بأي شيء في عقل المرء. إننا نلجأ إلى أحد لا نكاد نستطيع الحدس بوجوده، وبلغته أيضًا. لعل هذا هو بالضبط جوهر الكتابة أو معناها: نتحدث عن أكثر اهتماماتنا شخصية بلغة تتوجه إلى بني البشر جميعًا على قدم المساواة. كما إلى أحد فوقنا جميعًا، إلى أحد موجود داخله أيضًا بنوعٍ من الصدى أو الانعكاس".

اقرأ/ي أيضًا: ريكاردو بيجليا: عندما واجه جيفارا الموت بالقراءة

إن هاوية كافكا، وفقًا لكليما، تتمثل في أنه لم يكن قادرًا على قطع نفسه عن أبيه، أو إكمال حب ناضح. يضيف: "مع صدقه كله، ما كان كافكا قادرًا على الكتابة إلا عن أشياء عاشها بنفسه. لقد سجل دربه المتوحدة إلى الأعماق. لقد انحدر نزولًا إلى أبعد ما يستطيع أي إنسان. وهناك في الأسفل أتت النهاية، نهاية طريق ونهاية كتاباته (...) في القاع رأي شخصًا أحبه، ومع انحداره كانت صورة ذلك الشخص تقترب، لكنها كانت لتختفيت في الظلام في الوقت ذاته. وعندما صار قريبًا إليها بما يكفي لأن يمد يده صوبها، تقطعت أنفاسه وابتلعه فقدان الوعي".

الهاوية التي سقط فيها كافكا، بحسب مواطنه كليما، تشبه تلك الهاوية التي ننحدر فيها جميعًا، أو التي نتطلع إليها بفضول وخوف على أقل تقدير. هي الهاوية التي نستطيع رؤيتها في انعكاس أقدارنا، وفي أنفاسنا التي تحاول عبثًا أن تبلغ النضج، بالإضافة إلى محاولتها عبثًا الوصول إلى وجودٍ آخر. وفي سياق حديثه عن الهاوية، يقول كليما إن اللقاء بالآخر، وهو اللقاء الذي كان كافكا يتوق إليه في حياته كلها، مثّل هاوية أخرى وغامضة وسحيقة يصعب سبر غورها بالنسبة له.

اللقاء بالآخر الذي ذكره كليما، يتمثل في الارتباط الوثيق بامرأةٍ يحبها، وفي فرصة لتحقيق معنى حياته، فرصة يقول إن كافكا لم ينفك، طيلة حياته القصيرة بطبيعة الحال، يضيعها على نحوٍ متواصل. هنا، يطرح كليما السؤال التالي: أيستطيع شخص بهذا الصدق أن يكتب عن أي شيء غير ما كان يهز وجوده كله؟ ما كان يشغله ليل نهار؟ عن أي شيء يكتب غير هذا الصراع الذي يخوضه، وإن كان أقل من أمر هامشي مقارنةً مع الأحداث الثورية الجارية في العالم؟

يمثل اللقاء بالآخر بالنسبة لكافكا، وهو اللقاء الذي كان يتوق إليه، هاوية غامضة وسحيقة يصعب سبر غورها

يجيب: "صحيح أن أكثر كلامه كان عن نفسه؛ وصحيح أن أبطاله، رغم أن لهم أسماءهم، ما كانوا إلا هو نفسه باعترافه؛ لكنه كان يخفي الطبيعة الحقيقية لصراعه. لقد كان حييًا، نعم! وكان فنانًا إلى حد كبير جعله يعبّر بالصور عن كل شيء عاشه. آلة التعذيب التي تقتل المحكوم قتلًا بطيئًا، اخترعها هو في اللحظة عينها عندما قرر أن يكون مشاركًا رغم كل شيء، بعد صراع داخلي مرير (...) لكن ثمة في أعمال كافكا ما يتجاوز كونه مجرد صور مخترعة اختراعًا ذكيًا، إنه شيء يهزنا ويستحوذ علينا، شيء يدفعنا دفعًا قاتلًا إلى الأمام مثل طريق حادة الانحدار".

اقرأ/ي أيضًا: "حياة فتاة أو القديسة".. مارتن فالزر محاورًا عوالم كافكا

بجملةٍ أخرى، إن الصور التي يستخدمها كافكا غامضة غالبًا، ولكنها في الوقت نفسه تبدو وكأنها تعرض على نحو مقصود كثرة من العناصر اليائسة اللامتجانسة. ويشير كليما هنا إلى أن كافكا التمس، لشدة حيائه، سبيلًا إلى إيصال عذابه مع إخفائه في الوقت عينه. ولكن، في المقابل، كان عذاب كافكا شخصيًا إلى درجة جعلته غير قادر على الاكتفاء بالتعبير عنه بالصيغ الخفية أو بالاستعارة والمجاز فحسب، الأمر الذي دفعه، مرةً بعد مرة، إلى اعترافات علنية بالتجارب التي لمست كينونته، كما لو أنه يروي الحدث مرتين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القصة القصيرة جدًا وقصيدة النثر.. معضلة التجنيس

كتاب "كتابة الرائحة".. قراءةٌ في سرديات الشمّ