12-يناير-2021

من صفحة دار زينب (فيسبوك)

يفتتح رضا الأبيض كتابه "كتابة الرائحة.. في نماذج من الرواية العربية" (دار زينب للنشر، تونس 2020) بتوطئة وضَّح فيها منهجه في الكتاب، ابتداءً باقتباسات كان أجملها وأكثرها روعة ما قاله فريدريك نيتشه: "هذا الأنف على سبيل المثال، ذلك الذي لم يخصه أي فيلسوف حتى الآن بما يستحق من عبارات الإكبار والامتنان، لهو إلى حد الآن الأداة الأكثر رهافة مما بحوزتنا من الأدوات التي في خدمتنا".

إن الرائحة علامة من علامات وجودنا وعالمنا اللغوي، ورمز من مجموع رموز نعبّر بها عن رؤيتنا وتجربتنا

تناولت المقدمة كيفية تعاطي البحث النقدي لعناصر لم يُكترث لها من قبل، تشكّل اكتشافًا كبيرًا في ذلك البحث، ودراسة للأعمال العربية التي تناولت الرائحة، رغم أن للكاتب رأي لمسناه منذ البدء بأن السرد العربي لم يكن محتفلًا بالرائحة بما تستحق تلك الميزة، وبقي الأدب الغربي حافلًا بجماله وقبحه، وزاخرًا بعمق بكل حيثيات تلك الخاصية.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة عبد المالك أشهبون

كان هناك زخم كبير من معلومات عن كل ما قيل عن الرائحة ودورها في تعريف الصورة، هي مادة الكتاب الرئيسة، ثم جاءتنا الأبواب الثلاثة العظيمة، التي كانت لكل واحدة منها تفاصيل كبيرة عن كل ما يشمل تلك اللعنة التي تُسمى "الرائحة"، وانقسم كل باب إلى فصلين.

بيَّن الكاتب أهمَّ الخلاصات والملاحظات التي خرج بها من فصول الكتاب الستة، ورغم أن العمل يغلِب عليه الطابع البحثي والنقدي والسردي، إلا أن الباحث كان مرادُه الأول من دراسته هو تيسير مفاهيم واصطلاحات أدبية وعلمية؛ لكي تكونَ في متناول القارئ العادي غير المتخصص واستيعابه، من باب "تبسيط" الجمال للجميع، وقدّم خلاصة ذلك الجهد الكبير في 294 صفحة ممتلئة بكل دقة وبحث عن أسرجة الإبداع والجمال في كل ما كُتِب عن الرائحة في كل مكان بهذا العالم.

احتوت مدونة الكتاب عشر روايات هي: "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم (1965)، و"رائحة الصابون" لإلياس خوري (1984)، و"رائحة الأنثى" لأمين الزاوي (2000)، و"فخاخ الرائحة" ليوسف الميحميد (2003)، و"رائحة القرفة" لسمر يزبك (2008)، و"روائح ماري كلير" للحبيب السالمي (2008)، و"روائح المدينة" لحسين الواد (2010)، و"رائحة الجنة" لشعيب حليفي (2012)، و"زرايب العبيد" لنجوى بن شتوان (2016) و"رائحة الكافور" لميسلون فاخر (2018).

لم يبخل على قارئه -وهو يرفده بذلك المتسع المعرفي والجمالي- في رهان مكشوف عن قارئ فذ لدرجة تجعلك وأنت تُكمِل قراءة هذا الكتاب تتمنى أن تتحول إلى نسمة عذبة تحلّق في سماء وطن ولدت فيه وغادرك، وكم هي ساحرة تلك الرائحة: النسمة التي لا نملك الإمساك بها، إذ تشبه غيمة حلم بعيد.

هناك زخم كبير من معلومات عن كل ما قيل عن الرائحة ودورها في تعريف الصورة، وهي مادة كتاب "كتابة الرائحة" الرئيسة

إن الرائحة إذًا علامة من علامات وجودنا وعالمنا اللغوي، ورمز من مجموع رموز نعبّر بها عن رؤيتنا وتجربتنا، وهي ككل علامة نخبر بها وتخبر عنا، لكنها مع ذلك لا تستنفد الخبرة أو القول كله؛ لأنها -وقد صارت علامة- تشاركنا أيّ فعل مشرع الأبواب دائمًا على الممكن والمحتمل، وعلى "فائض المعنى" على حد قول بول ريكور في "نظرية تأويل الخطاب وفائض المعنى" ص 50.

اقرأ/ي أيضًا: الزواج والأدب

تقاذفنا هذا الكتاب من كل جانب؛ فتارة معرفة، وتارة فكر، كما أفصح عن محتواه الدكتور رضا الأبيض منذ مقدمته مرورًا بأبوابه العتيدة وفصوله الستة وحتى خاتمته التي اختزلت كل ما أردنا التوصل إليه، وبقينا نلهث وراءه مثل الصغار حول وهج شمسي، إلا أنه لم يكن من السهل أن نتكهن إلى أيّ فضاء متسع غرف من المعرفة وتقصى آفاق المعلومة، ونتعثر بدورنا في بحوث نتاجات فنية كبيرة كتبت عن بعد، أو عن قرب حول تلك المفردة.

إن رواية الرائحة ليست مقطوعة الجذور عن التراث، قومي، إنساني، لغوي وأدبي تحاوره وتوظفه ألفاظ مفردة وجمل وتعابير وصور أدبية واستعارات غريزة الدلالة، بناء على أن الكتَّاب محكومون بضرورة التأمل الإرجاعي للذاكرة الأدبية، لا يمكنهم التقدم "دون الالتفات إلى الوراء؛ فالكلمات -النصوص سلطة تقتضي الاعتراف والاستيعاب وموجودة مسبقًا"، تسكننا كطفولتنا نرتد إليها فتهبنا أصوات سلفنا وأحلامهم وصورهم، وتأسيسًا على أن ادعاء السبق وهم، وأن الأولية ليست غير دهشة واستدعاء وحوار، حيث الكتابة حدث تفاعلي "لا ينتهي من التناصية، وحيث النصوص تعيش عقد النقص دائمًا" ص 100.

 ذكر أن لاجرفيلد قبل وفاته أطلق عطره بالتعاون مع مجلة "وول بيبر" بعنوان "شغف الورق"، وذلك من وحي فكرة الناشر الألماني جيرارد شتاديل، وصمم عطرًا على شكل كتاب حقيقي برائحة الكتب، ثم بدأت محال بيع الشموع العطرية في استحداث شموع تنثر شذى ورق الكتب في أرجاء المكان الذي توجد فيه، وهذا تأكيد لما للرائحة من أهمية في عقولنا البصرية.

يقول بارت: "الصورة لا تغمر الغرفة، لا رائحة ولا موسيقى، لا شيء غير الناتئ. الصورة عنيفة، ليس لأنها تعرض عنفًا بل لأنها في كل مرة تملأ المشهد بالقوة، ولا شيء فيها يمكن رفضه أو تحويله، ولكن الصورة قادرة على أن تكون فنًا، فهي حين يقع إقحامها في دائرة استقبال ذي خبرة تنجو من سلبيتها الناتجة عن هذا الامتلاء المزيف، وتتخفف من هذه السطوة العقيمة؛ فتوحي بالروائح والأصوات والمذاقات، وإن لم تظهرها"، (ص 264).

تبدو اللغات جميعها تشكو الفراغ أو الثقب نفسه في ما يتعلق بقائمة أسماء الروائح في كل اللغات دون استثناء محدود

لكل إنسان منا "بصمة وراثية شمية" مميزة خاصة به، ومن الممكن أن تتعرض حاسة الشم للإصابة بالاختلالات المكتسبة، والتي يُطلق عليها: "معسرات الوظيفة الشمية"، ومنها الفقدان العام للقدرة الشمية، ولكن وجودها في حواسنا يجعل من عالمنا هذا فضاءً ملموسًا ومتسعًا بآفاق مألوفة للروح أحيانًا ومقززة أحيانا اخر.

اقرأ/ي أيضًا: عبد السلام بنعبد العالي: عندما تغدو الترجمة إبداعًا

في صفحة 265 يصل الكاتب إلى استخلاص مثير للدهشة، حين يقارن بين قائمة الألوان في عدد من اللغات، يظهر فعلًا تباينًا من جهة الوفرة والندرة، الأمر الذي عزاه بعض الدارسين إلى وصف بعض اللغات بأنها تشكو ثقوبًا لغوية. في الواقع تبدو اللغات جميعها تشكو الفراغ أو الثقب نفسه في ما يتعلق بقائمة أسماء الروائح في كل اللغات دون استثناء محدود، وذلك مقارنة بعدد الروائح في المحيط الطبيعي والاجتماعي، لذلك صح اعتبار اللغات الإنسانية "بدائية" في الكلام على حاسة ما دامت قد اعتُبرت هي ذاتها بدائية.

مثل هذا النوع، من تفسير مشهد الصورة وهو ممتلئ بذاكرة التفاصيل، أشعرنا ونحن نقرأ ذلك النص أن الصورة ناقصة عقيمة، تفتقر لمقومات الروح المبثوثة من خلال حواس مهمة اختفت من ذلك الجسد البصري، وحرمتنا من تنفّس الرائحة المحيطة بمكان اللوحة، تلك الرائحة التي متى تسربت إلى أنوفنا حولتنا في لحظة إلى مكوّن أساسي لذلك المكان المرصود بكم كبير من الرهافات، وكذلك لم تمكّنا من الإصغاء لأصوات ذلك المحيط السحري الذي جاءت به مغلفة بأحاسيس، وأبت علينا أن نتلمّس ذلك الجمال، بل جعلته فقط صورة تتماهى في أحداقنا بلا طعم رائحة ولا نغم يتراقص ولا شيء أمسكناه بأيدينا.

وإلى جانب كتابه "كتابة الرائحة.. في نماذج من الرواية العربية" للمؤلف كذلك كتاب "الروائي الناقد.. في العلاقة بين الرواية والنقد الروائي من خلال أعمال المديني وطرشونة وخراط وخوري"، الصادر عن دار ابن عربي في تونس عام 2019، فضلًا عن إسهامات في دوريات ومجلات عربية أخرى، وإلى جانب التدريس بجامعة قابس التونسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "أحجية إدمون عمران المالح".. ما بعد الحداثة والمسألة الفلسطينية

إيفان كليما في "حبّ وقمامة".. تقليص وجود الإنسان إلى عدمية النفايات