13-يناير-2021

فوتوغرافيا غطفان غنوم/ سوريا

لم يكن النقاد والمتابعون لتصاريف الأجناس الأدبية في المشهد الثقافي العربي منفكّين بشأن ملامح قارَّة وثابتة لكل منْشَطٍ جمالي حتى استفحل الأمر واهترأت الحدود الفاصلة بين الأجناس. بشكل يعتاص في كنفه إيجاد ترسيمات قيمية ومعايير قارّة على مناطق التماس بين الجماليات.

حين نتصفّح مجموعة شعرية تُقدَّم للقارئ العربي على أنها تجريب في قصيدة النثر، فإننا نلفي انزياحًا إلى القصة القصيرة جدًا

عُرفت القصة القصيرة عربيًا حين كتب شاعر فلسطيني يدعى محمود علي السعيد قصة قصيرة جدًا بعنوان "الرصاصة"، لتنطلق الرصاصة من إصبع الشعر وفي بيته لترتد في لحمه النسقي الحي، ولتظل القصة القصيرة جدًا على تقاطع فني وبنيوي مريب ومربك على حدود الشعر، وسيستمرُّ هذا الإرباك حين يُتَوِّه المبدعُ قارئه على ناصية مجموعته الإبداعية بوسْم تجنيسيٍّ مُضلِّل، كأن يضع تحت العنوان عبارة "قصص قصيرة جدًا" أو كلمة "شعر" في الوقت الذي يزخر فيه ديوانه أو مجموعته بنصوص شعرية أو سردية خالصة تمْرق عن الخط الأجناسي الذي رصده لها الناصُّ. كما نلمسه جليًّا في تجربة الشاعر سيف الرحبي في مجموعاته: الجبل الأخضر، ومنازل، الخطوة، مقاطع من سيرة طفل عماني... التي يتماهى فيها دور الراوي من موقعه، مع جنس السيرة الذاتية، ولكن في إطار الشعر. كما ترى الناقدة العمانية آمنة الربيع. وسنستحضر هنا تلك النكتة الشعبية لذلك الدكاكيني الذي يبيع السُّكّر وقد كتب على العلبة كلمة "ملح" حتى لا يصل النمل إلى سُكَّره.

اقرأ/ي أيضًا: ملتقى للقصّة القصيرة جدًّا في الجزائر.. الاحتفاء بالتكثيف

حين نتصفّح مجموعة شعرية تُقدَّم للقارئ العربي على أنها تجريب في قصيدة النثر، فإننا نلفي في أكثر من صفحة من صفحات هذا الديوان أو ذاك انزياحًا جنسانيًا ينداح بتجربة الشاعر إلى جنس قريب هو القصة القصيرة جدًا، أو ما يقترب من هذا المصطلح، وكدليل نسوقه للتأكيد على هذا، نفتح المجموعة القصصية القصيرة للقاص الفلسطيني حسين المناصرة التي وسمها بـ"سيد المفاتيح"، ليفاجئنا تفاوت النسق الرابط لعِقْد نصوصه بين السرد والإفضاء الشعري الخالص الخالي من الحَدَثيّة والتشخيص والعقدة والتوازن.. وغيرها من الملامح الأولية للسرد، ومن ذلك ما نقرأه في مجموعته:

"أنا من العُصاه

وأنت من توافه الأشياء

لا أنا صرصار

ولا أنت قُبّرة

أنت صرخة الأوطان كاذبة

وأنا سيد التاريخ

وجذر الحقيقة".

ونحن هنا لسنا بصدد التساؤل حول كيف استوى في ذائقته أن يقحم مثل هذا النص وغيره ضمن مجموعة شعرية ختم مصيرها التجنيسي بعبارة "قصص قصيرة جدًا"، بقدر ما نحن نحاول أن ندلِّل ونُجلي مدى التواشج المحتدم والملتفّ حول أنساقه الهجينة الذي آلت إليه قصيدة النثر الوامضة والقصة القصيرة جدًا عند كُتاب هذين الجنسين في عالمنا العربي.

 هكذا نستطيع أن نستشفَّ أيضًا الأثر الكبير للتوزيع البصري، ودوره في توجيه آفاق انتظارنا وتمويه أنظارنا لتلقي النصوص الأدبية داخل هذا النوع من غيره. كما أن القصة القصيرة جدا صارت تَعتدُّ –من جانبها- ببلاغة الإيجاز، والمحو، والإحالات البعيدة، والمفارقة وغيرها من الأساليب الشعرية التي كان الشعر يتعالى بها على غيره من الأجناس بوصفها من أخصّ خصائصه.

لا غرو إذًا أن يجد البعض في قصيدة النثر قصة قصيرة جدًا، وفي القصة القصيرة جدًا قصيدة نثر في ظل هذه الجلبة المفهومية

فلا غرو إذًا أن يجد البعض في قصيدة النثر قصة قصيرة جدًا، وفي القصة القصيرة جدًا قصيدة نثر في ظل هذه الجلبة المفهومية، وهذه البلبلة الاصطلاحية التي غمَّت على فضائنا الإبداعي والنقدي على حدٍّ سواء. فقد صار جليا أمامنا اليوم كيف أصبحت القصيدة تميل إلى الكثافة والتمركز والقصر كاتجاه عام، حتى باتت قابلة للانتشار على الشبكة العنكبوتية، بينما فشلت الرواية في طولها النسبي الذي نرى أنه بدأ -أي حجمها- في التقلص حسب رأي الباحث حسن جعفر الذي نختلف معه في هذا الرأي ونتفق معه فقط في فشل الرواية النسبي في إمكانية إنتاجها وتلقيها الواسع رقميًا.  

اقرأ/ي أيضًا: القصة القصيرة جدًّا.. الكتابة بمنطق الرصاصة

وكما أن قصيدة النثر تماهت في صيرورتها الفنية مع طبيعة الوسيط الثقافي الرقمي الجديد، لتجد في قصيدة "الهايكو" اليابانية الكونية فضاءً أرحب لتشكل جمالي عولمي جديد، فإن القصة القصيرة جدًّا وجدت فيما صار يسمى في العالم العربي "الأدب التويتري" (Twittérature) مكانًا لها. والأدب التويتري مصطلح انتشر ليدل على كل منجز فني أو سردي موجز بالمساحة المخصصة للتغريد في مواقع التواصل الاجتماعي، ليستغرق فيما بعد كل سردية قصيرة، فهو [أي الأدب التويتري] جنس مبتَكرٌ جاء كي يؤهل دورَ الأداة/التواصل الاجتماعي على حساب المؤلِّفين.

هكذا تتقاطع توغلات قصيدة النثر بالقصة القصيرة جدًا أو ما يصطلح عليه البعض بـ"النوفيلا" عبر الهايكو، والسردية التويترية في الراهن الجمالي ليصير من الصعب فكُّ الالتحام البنيوي بينهما، وهو ما انعكس على فهم المبدع العربي لاشتراطات هذه من تلك، في التباس يبدو أنه صار حتميًا حتى في مظانِّه الغربية.  فالنوفيلا "في جوهرها هي تجربة عابرة"، كما يُعرفها فكتور ساودن بريتشات: "كشيء عابر نلمحه يفلت من طرف النظر" تلقائيًا، وأكبر شاهد على حدّة هذه الطاقة التكثيفية للانفعال في النوفيلا نجده عند إرنست همنغواي الذي راهن، مقابل عشر دولارات، لينجح في استثارة القراء بقصة لا تتعدى الست كلمات: "للبيع... حذاء طفل... لم يستعمل بعد"، ويُروى أنه كتبها على علبة كبريت. هذا المقطع الأخير يجد البعض فيه تماثلًا كبيرًا مع نص الهايكو الشعري الذي يفهرسه الباحثون عادة تحت يافطة قصيدة النثر.

لقد لجأ بعض المبدعين بوعي منهم لتحولات الكتابة، وانفتاح التجربة الإبداعية على ما اصطلَح عليه محمد عبد المطلب "الكتابة" إلى اجتراح مصطلح "النص"، لأي عمل يكتبونه، ويؤثِرون أن يقدموا أنفسهم للقارئ باسم "النَّاصّ" هكذا دون تحديد تجنيسي.

لا يختلف اثنان في أن هناك تشاكلًا نسقيًا وجماليًا بينَ قصيدة النثر في بعض تجاربها، والقصة القصيرة جدًا في بعض مغامراتها الفنية

فهذا الناص الجزائري عبد الرزاق بوكبة يُصدر مجموعةً زاخرةً بالقصص القصيرة جدًّا تحت عنوان "من دسَّ خُفَّ سيبويه في الرمل" ليندس بدوره تحت مصطلح "النَّاصّ" ويترك نصوصه تتحرك بحرية بين مختلف الأجناس والقوالب النوعية. وبوكبة إذ يختار هذا العنوان المشحون بطاقة إيحائية دالة لمجموعته السردية وهو يومئ إلى ردم المعالم التي يحفظُها (المعيار/سيبويه) تحت الرمل كي يكفَّ عن مراقبة النَّاص، ولا يتبعه في تجربته المختلفة هذه.  يقول في إحدى القصص القصيرة العميقة من هذه المجموعة ما يلي:

"مضى يغازلها لسانًا بوارًا يلحس من غبار الأجداد

 مضت مشغولة عنه تحلم بكلام جديد في الأبعاد.

- إذًا تنوين تهجرين؟

- هناك على الأقل لن يعيِّروني بالغزالة".

النص يتشوّف إلى كلام جديد في الأبعاد. فحين تصير الغزالة صفةً تُعيَّرُ بها الجميلة، تصبح اللغة تخبطُ جدارَ مأزقها التاريخي الجديد كي تنفض عن ذاتها قمقم الرتابة والتكرار، والتعاطي التقليدي البائس مع ما يعترض الإنسان الجديد من حادثات ومواقف وتوصيفات تتطلب نبضا تفاعليا طارئًا.

اقرأ/ي أيضًا: القصّة القصيرة.. وعي اللحظة والتقاطُها

لا يختلف اثنان في أن هناك تشاكلًا نسقيًا وجماليًا بينَ قصيدة النثر في بعض تجاربها، والقصة القصيرة جدًا في بعض مغامراتها الفنية، وهو تشاكل سيظل محتدمًا ما لم تعكف الدراسات والمتابعات النقدية التي تروم ترسيم الحدود بين الإقليمين الجماليين المتجاورين على الوصول إلى مقامات مرجعية فنية يبدو أنها غير ممكنة التجلي، وغائرة في لُبسها تحت غيوم من التجارب المتعددة والمختلفة عربيًا وكونيًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

5 مجموعات أساسية في تاريخ قصيدة النثر العربية

قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة