14-يونيو-2021

مظاهرة ضد الاستيطان في الضفة الغربية (Getty)

لم تكن الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة؛ انتفاضة "الشيخ جراح" والتي شملت عموم الوطن الفلسطيني، من عكا إلى النقب مرورًا بمدن فلسطين التاريخية حيفا ويافا والرملة واللد والجليل والمثلث، والضفة الغربية قاطبة، مع مقاومة غزة الإعجازية، وتظاهرات الشتات الفلسطيني في دول الجوار، وما رافقها من تضامن عالمي قلّ نظيره منذ نشوء المأساة الفلسطينية التي تمثلت في حملات التطهير العرقي المنظّم (النكبة) التي قادتها العصابات الصهيونية قبل ثلاثة وسبعين عامًا، هي الدافع المباشر لكي تدعو عدّة حراكات وطنية والعديد من الشخصيات في الداخل والخارج إلى طي صفحة اتفاق أوسلو، الذي يكاد أو كاد أن يخنق الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلةً بمنظمة التحرير الفلسطينية التي لم يبق للتحرير مكانًا فيها سوى في اسمها، الذي يُذكر أنها انطلقت أو أُسست لأجله.

أصبح اتفاق أوسلو خارطة الطريق المعتمدة دوليًا لحل ما أصبح يسمى حاليًا من قبل الدول الغربية، بل وأغلب الدول العربية، "النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي"

ورغم أن أوسلو نتج عن تكتيكٍ فلسطيني أُطلق عليه في سبعينيات القرن الماضي "البرنامج السياسي المرحلي"، وجرى توقيعه عام 1993 (أي أوسلو) بين حكومة الاحتلال ومنظمة التحرير في واشنطن، وصلاحيته (وفق نصه) خمس سنوات لا أكثر، وانتهى نهايةً درامتيكية بالفعل عقب فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية عام 2000 مع اشتعال انتفاضة الأقصى المسلحة، ومُدد له من قبل الإدارة الأمريكية والرباعية الدولية بوضع "خارطة طريق" كان يجب أن تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية عام 2005، إلّا أنّ ذلك لم يحصل، وبدلًا منه استمرت الآليات الأمنية المعروفة بخطة "جورج تينيت" التي نتجت عام 2001 في إطار مؤتمر شرم الشيخ لمنع العمل الفدائي الفلسطيني ضد جيش الاحتلال ومستوطنيه.

اقرأ/ي أيضًا: تحت غيوم "صفقة القرن".. ماذا قال الفلسطينيون عن ربع قرن منذ اتفاقية أوسلو؟

وإذا قيّمنا ما بقي من الاتفاق اليوم، لن نجد سوى التنسيق الأمني واتفاق باريس الاقتصادي الذي يشاء له البعض راضيًا أو مكرهًا أن يؤبّد ويصبح المرجع المعتمد والنهائي للكفاح الفلسطيني الرسمي بقيادة منظمة التحرير، وبالتالي مرجعًا للقضية الفلسطينية. فقد أصبح اتفاق أوسلو خارطة الطريق المعتمدة دوليًا لحل ما أصبح يسمى حاليًا من قبل الدول الغربية، بل وأغلب الدول العربية، "النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي"، ورغم فشله ما زال يُطلب من الفلسطيني الالتزام ببنوده، مع أنّه لا يصلح وفق صياغته أن يكون حلًا، فوفق قراءة دقيقة، وكذلك تصريحات مهندسيه أنفسهم، أنّ الاتفاق لم يتضمن أي بند ينص على إنهاء الاحتلال أو إنهاء الاستيطان أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما أشار إليه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبد ربه في الفيلم الوثائقي "ثمن أوسلو".

إن اعتماد نصوص أوسلو المجافية للحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، كمسار لحل الصراع الفلسطيني الصهيوني من خلال التمسّك بالاتفاق واستدامة بقاءه هو أمر غير منطقي، إذ يُعدُّ في جوهره التفافًا على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وتقزيم لها، ومع أنني لا أُنكر أنه قد خدم في مراحله الأولى (والحق يقال) ما تبين أنه أحد أهداف ياسر عرفات وبعض حركة فتح منه، والمتمثل بعودة ما يقارب ربع مليون فلسطيني من الشتات إلى الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلّين، وعودة قوات الثورة الفلسطينية من الخارج إلى الداخل، كما استخدمه ياسر عرفات صاحب الشخصية المركبة والكاريزماتية التي تخفي أكثر مما تبدي، لتهريب السلاح وتخزينه وتدريب المقاتلين، ومن ثم اختبر استراتيجيته في نقل النضال المسلح من الخارج إلى الداخل في حدثين كبيرين هامين ومفصليين؛ هبّة النفق (1996) وانتفاضة  الأقصى (2000 - 2005) المسلحتين. ومن فوائده على الصعيد السياسي أنه برهن للعرب والعالم بما لا يدع مجالًا للشك عدم رغبة الصهاينة بالسلام، بل أثبت أن كل ما سعوا ويسعون إليه من مثل هذه الاتفاقيات استسلامًا فلسطينيًا، مقابل حكم ذاتي ذي صلاحيات محدودة، لا دولة فلسطينية، التي وإن تحققت اسمًا لن تكون كيانًا قابلًا للحياة إلا بالاعتماد على الاقتصاد الصهيوني والتبعية الأمنية له.

ومن فضائل انتفاضة الأقصى، التي جاءت بشكل أو بآخر نتيجة أوسلو، إنهاء الوجود الصهيوني المسلح في قطاع غزة، وهي إحدى النتائج الاستراتيجية التي خلقت ظروفًا نضالية جديدة سمحت للعمل الفلسطيني المسلح بالتطور، حيث شاهدناه في عدة معارك بين قوات الاحتلال والحركة الوطنية والإسلامية الفلسطينية (حروب غزّة المتكررة)، والتي أوجزها أخيرًا قائد حماس في قطاع غزة يحيى السنوار في مقابلة له بالقول: "إن المقاومة الفلسطينية وما تمتلكه من سلاح اليوم، هو استكمالًا للنهج الذي اعتمده أبو عمار في الكفاح المسلح".  

من فضائل انتفاضة الأقصى، التي جاءت بشكل أو بآخر نتيجة أوسلو، إنهاء الوجود الصهيوني المسلح في قطاع غزة

لكن على الصعيد السياسي، فشل اتفاق أوسلو وأصبح عبئًا ثقيلًا على العمل الوطني الرسمي الفلسطيني، وقد فشل ليس وفق تقييمنا نحن فقط، بل وفق تقييم أحد أهم صانعيه ياسر عبد ربه، الذي قال قبل ستة أعوام وتحديدًا عام 2015 في معرض تقييمه لما نتج عن الاتفاق: "إن الخطة السياسية منذ اتفاقية أوسلو حتى الآن، فشلت فشلًا ذريعًا وتامًا، وإن الرهان على المفاوضات كسبيل وحيد لإنهاء الاحتلال انهار كليًا، وأن الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير و"إسرائيل" لم يكن متوازنًا، لأنه اعتراف بحق "إسرائيل" في الوجود مقابل مجرد الاعتراف بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني". وهو اتفاق غير قابل للترميم وفق عبد ربه، وعليه: "من غير المفيد أبدًا محاولة ترميم ما تمزّق وسقط عبر الركض وراء مشروع جديد في مجلس الأمن". وموضوع الاعتراف من قبل قيادة الشعب الفلسطيني يعتبر قانونيًا أخطر من وعد بلفور وأخطر من خطة ترامب فهو الاعتراف القانوني الوحيد الذي يمكن ان يستند إليه الصهاينة لتبرير مواصلة احتلالهم إذ هو اعتراف من مالك الأرض بخق الغريب المستوطن الإحلالي بامتلاك 78% من الوطن الفلسطيني، وليس من قوة غريبة أخرى كبريطانيا والولايات المتحدة.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى صديق ألماني

وللتذكير، جاء مشروع أوسلو في سياق ما سمي بالبرنامج السياسي المرحلي الذي بدأت إرهاصاته عام 1974؛ مشروع "النقاط العشرة"، والذي صيغ وفقًا لنصائح سوفييتية وعربية للتعاطي مع تفاهمات سايرس فانس وأندري غروميكو الممهدة لمؤتمر جنيف (1973) كي يكون للفلسطينيين تمثيلًا فيه، حيث كان من المزمع الدعوة إليه لحل الصراع العربي الصهيوني بناءً على نتائج حرب أكتوبر (1973) العربية - الصهيونية. إلّا أنّ ما انتهى إليه هذا التكتيك عربيًا وفلسطينيًا أدى إلى نهايات كارثية على صعيد الأمن القومي العربي وقيمة القضية الفلسطينية كقضية مركزية وقضية كرامة عربية، حيث أضعفت الاتفاقيات الانفرادية مكانة القضية الفلسطينية وفتّتت جبهة العرب التي توحّدت في تلك الحرب كما لم تكن من قبل، ومنحت الكيان الصهيوني شرعية البقاء والاستمرار، وهذه المرة باعترافات وتحالفات عربية مستترة.

وإذا كان اتفاق أوسلو قد استنفذ الغرض أو الغاية التي أرادها البعض الفلسطيني منه، فإن بقاءه واستمراره بالاعتراف بحق إسرائيل بالوجود ككيان عنصري استعماري استعلائي إجرامي لهو أمر لا يغتفر، ويصبح الاستمرار فيه دون هدف، مصيدة صهيونية تُكبّل الكفاح الوطني الفلسطيني وتُعزز الانقسام واختلاف الرؤى وتعدد البرامج الكفاحية للشعب الفلسطيني وقواه المناضلة. وهو كذلك تشتيت للجهود وإضعاف لقيمة القضية الفلسطينية عربيًا ودوليًا، فما بقي منه، إضافةً إلى الاعتراف المجاني المنافي للحق الفلسطيني، التنسيق الأمني (غير المقدس) واتفاقية باريس الاقتصادية (التي تكرس التبعية)، وهما مكملان لبعضهما البعض؛ يخدم الأول حماية أمن الصهاينة جنودًا وحدودًا ومستوطنين، مقابل تسليم عوائد المقاصة المالية والسماح الصهيوني للسلطة بجباية الضرائب داخل مناطق سيطرتها؛ أي المنطقتين "أ" و"ب". وهي الأموال اللازمة لتمويل المؤسسات ورواتب الموظفين في القطاع العام.

ومع أن هناك عوائق توضع لعدم إلغاء الاتفاق من بينها، عدم القدرة على توفير المال البديل عربيًا للاستمرار، بعدما فشلت السلطة الفلسطينية عدّة مرات بتأمين مظلة مالية عربية، بعيدًا عن الابتزاز الصهيوني. إلّا أنّ هذا العائق على أهميته، الذي يضع السلطة واستمرارها في مقابل تحرير الأرض والوطن، سيظل استراتيجية ضارة بل ومدمرة للهدف الأول الذي انطلقت من أجله الثورة الفلسطينية المعاصرة، وهو تحرير الأرض وعودة اللاجئين إلى ديارهم، حيث تحوّلت السلطة مع الزمن بوعي أو دون وعي إلى جسم تابع للاحتلال، فمصيرها وبقاؤها مرتبطان بفعلها الأمني المُحبط لأي عمل مقاوم ضدّ الوجود الاحتلالي، وهي معادلة مؤلمة للكل الوطني الفلسطيني، ويجب ألا تستمر، حيث وصفتها عضو تنفيذية منظمة التحرير المستقيلة حنان عشراوي، أنها كارثة تجعل من هم تحت الاحتلال يحمون أمن مُحتليهم، الأمر الذي لم يحصل لشعبٍ آخر في أي زمان ومكان على مدى التاريخ.

لذلك كله، آن الأوان لأوسلو أن ينتهي، وتطوى صفحته كي تعود المنظمة لمنطلقاتها الأولى وهي منطلقات سليمة، وليصبح النضال من أجل فلسطين كاملةً هدفًا، فإذا كان هدف أوسلو إنشاء سلطة وطنية على أي جزء جرى تحريره، فقد أنجز الهدف، وإذا كان ذلك هدفًا مرحليًا فقط، فقد تحقق.

إذا كان اتفاق أوسلو قد استنفذ الغرض أو الغاية التي أرادها البعض الفلسطيني منه، فإن بقاءه واستمراره بالاعتراف بحق إسرائيل بالوجود ككيان عنصري استعماري استعلائي إجرامي لهو أمر لا يغتفر

يقترب الشعب الفلسطيني اليوم من أربعة عشر مليونًا داخلًا وشتاتًا، وهناك سبعة مليون نسمة في مساحة "فلسطين من النهر إلى البحر"، ويخضع جميعه للاحتلال ويتعرض لنفس القهر، وهو مع كل هبة أو انتفاضة يتكاتف ويتكامل، غير آبهٍ بتقسيمات أوسلو أو تقسيمات الاحتلال المناطقية السياسية. وإذا أصبح هدف نضال فلسطينيي الداخل المحتل، وفق ما تبع أوسلو، المساواة والعدالة ضمن دولة "إسرائيل"، أو الحصول على حكم ذاتي لما يطلق عليه صهيونيًا "الوسط العربي" كما يسعى له بعضهم، فإن رغبة الأغلبية منهم كما أظهرت الأحداث وبعيدًا عن ممثليهم في الكنيست، التكامل مع أبناء شعبهم في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، لا تكاملًا في دولة مستقلة بجوار "إسرائيل" بل محلّ "إسرائيل" نفسها، ولا يعني ذلك إزالتها، بل الخلاص من صهيونيتها التي تعني عنصريتها وفصلها العنصري Apartheid وتطهيرها العرقي Genocide، وغيرها من قوانين وممارسات تُعتبر في عرف القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية.

اقرأ/ي أيضًا: أجساد الفلسطينيات في المنطق الاستعماري المتحيّز

إن مطلب وهدف "فلسطين كاملة" هو المطلب الوحيد القابل للتطبيق والحياة، على عكس مشروع حل الدولتين التي أشار مسؤولون أمريكيون ودوليون، بل وحتى صهاينة، أنه أصبح غير قابل للتطبيق بفعل الاستيطان المنتشر في كل مناطق الضفة الغربية، مما جعل واقع الفلسطينيين في مناطق عام 1948، لا يختلف عن واقع الفلسطينيين في مناطق العام 1967، فكلاهما محاط بالمستوطنات والمستوطنين، بفارق بسيط متعلق بحرية الحركة والجنسية وبعض التمييز الاقتصادي في الداخل عن مناطق الضفة وغزة.

"فلسطين كاملة" ليست شعارًا، بل أضحت هدفًا وخيارًا، لذلك يُمثّل الاستمرار في جغرافية ونهج أوسلو العائق الوحيد لإطلاق حملة نضالية عالمية لإنهاء الصهيونية بوصفها أيديولوجيا عنصرية استعمارية، وصنع سلام حقيقي في دولة على كامل تراب فلسطين يعيش فيها كل من فيها، ضمن حقوق متساوية في العدالة والاقتصاد بلا تمييز عنصري أو ديني أو قومي. لم يعد هناك خيار آخر، إلا لمن راق له ملاحقة الأوهام تلو الأوهام، التي تثير انقسامات واتهامات لن تنتهي إلا بتخطّي أوسلو إلى آفاق نضالية أرحب وأكثر جدوى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قراءة لإستراتيجيات المواجهة في الداخل الفلسطيني

فلسطين عنوان لحرية الشعوب العربية