08-يونيو-2021

الناشطة المقدسية منى الكرد في منزلها بعد إطلاق سراحها (Getty)

شهدت الهبة الفلسطينية الأخيرة من أجل القدس مشاركة واسعة من النساء الفلسطينيات، وإنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي وإن سارت على نهجها المعهود في التعاطي العنيف والقامع مع المشاركين والمشاركات في هذه الهبة وغيرها، إلا أنّ مشهد القمع والتنكيل الذي تعرضتا له –على سبيل المثال- الناشطة والصحفية المقدسيتان مريم العفيفي وزينة الحلواني، والذي ظهر فيه المحتلّ في ممارسة قمعية صريحة ومستبيحة للمرأة الفلسطينية وجسدها، هو مشهد يدفع بتساؤل قديم جديد حول كيفية إدراك قوات الاحتلال الاستعمارية الإسرائيلية للنساء الفلسطينيات وأجسادهنّ، وحول إذا ما كان طبيعة التعاطي العنيف معهنّ هو تعاطي له علاقة بأدوارهنّ الاجتماعية والجندرية.

ممارسة العنف في السياقات الاستعمارية هي الوسيلة الأبرز التي يستخدمها المستعمِر من أجل استباحة جسد المستعمَر

وضمن إطار الإجابة عن التساؤل السابق، يُمكن القول بأنّ ممارسة العنف في السياقات الاستعمارية بصفة عامة والإسرائيلية الصهيونية بصفة خاصة هي الوسيلة الأبرز التي يستخدمها المستعمِر من أجل استباحة جسد المستعمَر، وإنّ فكرة ممارسة العنف تجاه جسد المستعمَر -سواء أكان جسد رجل أو امرأة- تأتي في المنطق الاستعماري على اعتبار أنّ المستعمِر له سلطة مطلقة على هذا الجسد، بحيث أنّه يمتلك من خلالها كلّ أدوات القوة التي يُسمَح له باستخدامها على جسد المستعمَر بعد وجوب تجريده من كلّ قوة مرئية (1).

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعني طبيعة حملات الناشطين العرب بخصوص اعتقال منى الكرد؟

وإن كانت الممارسات المستبيحة لجسد المستعمَر في المنطق الاستعماري الإسرائيلي تتشابه في طريقة ارتكابها ضدّ أجساد الرجال والنساء الفلسطينيين والفلسطينيات، إلا أنّها تأتي ضدّ أجساد النساء الفلسطينيات محمّلة بالعديد من المقاصد والمعاني الخاصة، والتي يأتي العديد منها متعلّقًا بطبيعة الأدوار الاجتماعية والجندرية للمرأة.

وتبعاً لذلك، يُمكن القول بأنّ استهداف المستعمِر الإسرائيلي لأجساد النساء الفلسطينيات منذ النكبة بشكليْ العنف الجسدي والجنسي إنّما يأتي بشكل ممنهج كجزء من منطق الإجلاء والإبادة العرقية التي يعتمده المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، فالممارسات العنيفة ضدّ النساء الفلسطينيات وأجسادهنّ كانت ولا زالت جزءًا من محاولات الدولة الاستعمارية الاستيطانية لإبادة الفلسطينيين وإبعادهم وإجلائهم عن أراضيهم.

وضمن هذا الإطار، فإنّه يُمكن اعتبار أنّ استهداف أجساد النساء الفلسطينيات واستباحتها -بالعنف الجسدي أو الجنسي- من قِبَل المستعمِر الإسرائيلي إنّما يأتي بهدف ترسيخ الأيديولوجية الصهيونية التي تقول بأنّه إذا كانت أجساد الأصلانيين بطبيعتها قابلة للاستباحة والانتهاك، فإنّ أراضيهم أيضًا قابلة للانتهاك. وإنّ هذا المنطق الذي يقوم بموضعة الذات الصهيونية كذات قادرة على الانتهاك، وموضعة الآخر الفلسطيني كشيء -متجرّد من ذاتيته- قابل للانتهاك هو جزء سائد واعتيادي في المنطق الاستعماري الإسرائيلي (2).

وإنّ استهداف المستعمِر الإسرائيلي لأجساد النساء الفلسطينيات بشكليْ العنف الجسدي والجنسي يأتي في المنطق الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي ضمن إطار التمييز الثقافي العرقي بين جسد الفرد اليهودي المتحضّر العصري وبين جسد الآخر (الفلسطيني) البربري غير المتحضّر والمتأخر عن مواكبة الحداثة. فالمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي بصفته مشروعًا قائمًا على أسس عرقية وعنصرية يرى في استهداف واستباحة أجساد الفلسطينيين بشكل عام والنساء بشكل خاصّ أمرًا مشروعًا وضروريًا من أجل التفريق والتمييز بين الجسد الإسرائيلي الأرقى والجسد الفلسطيني الواقع في منزلة أدنى والقابل للانتهاك والاستباحة (3).

وإنّ استهداف المستعمِر الإسرائيلي لأجساد النساء الفلسطينيات لا يأتي في المنطق الاستعماري من تصنيفهنّ باعتبارهنّ ذلك العرق الآخر والعدو الآخر فقط، بل يأتي أيضًا مرتبطًا بطبيعة أدوارهنّ الاجتماعية والجندرية على اعتبارهنّ في المنطق الاستعماري آلة إنجاب الشعب الفلسطيني (4).

وتبعًا لذلك، فإنّ المتابع للأبحاث الإسرائيلية المتعلّقة بالنساء الفلسطينيات وأدوارهنّ في المقاومة يكتشف أنّ هناك هوسًا استعماريًا دائمًا بتلك الأدوار، وأنّ هذا الهوس يقوم غالبًا بالتركيز على أدوارهنّ الإنجابية دون غيرها على اعتبار أنّهنّ "أمهات الشهداء" أيْ منجبات "الذكور الذين يُقاتلون ويستشهدون"، فجسد المرأة الفلسطينية كما يراها المستعمِر الإسرائيلي هو قنبلة تحمل لموت للإسرائيليين والحياة للفلسطينيين، لأنّ خصوبته بالنسبة للمستعمِر الإسرائيلي يحمل في طياته "الهزيمة الديموغرافية لإسرائيل والإمكانية الحاضرة دائماً لتفجير انتحاري" (5).

الهوس الاستعماري الإسرائيلي بالتركيز على الأدوار الإنجابية للنساء الفلسطينيات يكشف عن نظرة لا تخلو من عنصرية وتحيّز جنسي وجندري

وإنّ هذا الهوس الاستعماري الإسرائيلي بالتركيز على الأدوار الإنجابية للنساء الفلسطينيات إنّما يكشف على أنّ النظرة الاستعمارية الإسرائيلية إلى المرأة الفلسطينية هي نظرة لا تخلو من عنصرية وتحيّز جنسي وجندري، فما زالت تلك النظرة تحصر مقاومة المرأة الفلسطينية في أدوارها الإنجابية والبيولوجية، أي أنّها تُهمل كلّ أدوار المرأة الفلسطينية الأخرى في أفعال المقاومة، ويأتي تركيزها على أدوارها الإنجابية للتدليل على عدم تحسّن أدوارها الاجتماعية واستمرار خضوعها (5).

اقرأ/ي أيضًا: قراءة لإستراتيجيات المواجهة في الداخل الفلسطيني

أخيرًا، فإنّ حوادث القمع والاعتقال والتنكيل التي تعرضت له العديد من النساء الفلسطينيات اللواتي شاركن في الهبة الفلسطينية الأخيرة هي حوادث تأتي بما يكشف على أنّ منطق العنف الجسدي والجنسي في المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي كان ولا زال هو المحرّك الأوّل للاعتداء على أجساد وحيوات النساء الفلسطينيات، وأنّ هذا المنطق في داخله منطق عنصري عرقي لا يخلو من تحيّزات قائمة على أسس جندرية وجنسية، وأنّه بالذات جزء لا يتجزّأ من منطق الإجلاء الاستعماري المرتبط بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

 

هوامش

1- نور محمد جبر بدر، التهميش المركب: عن روايات المعتقلات الفلسطينيات لتجاربهن في الأسر، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة بيرزيت، 2020، ص 58.

2- نادرة شلهوب وأخريات، العنف الجنسيّ، أجساد النساء والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، برنامج دراسات إسرائيل، المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية-مدى الكرمل، كانون الأول/ديسمبر 2014، ص4,

3- المرجع السابق، ص 12-13.

4 - المرجع السابق، ص 14.

5 - أميرة محمد سِلْمي، عن النساء والمقاومة: الرواية الاستعمارية، رام الله-فلسطين: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية-مواطن، 2009، ص201-202.

6- المرجع السابق، ص 195.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فلسطين كاملة: من المستحيل إلى الممكن

فلسطين التي تحضنا على المعرفة