10-يونيو-2021

البلدة القديمة في القدس: ظلال مستوطنين على قماش يفصل النساء عن الرجال أثناء مسيرة استفزازية (Getty)

صديقي العزيز،

الرواية التي تتبناها، وهي ذاتها الرائجة أيضًا في أوساط اليسار الإسرائيلي، عاجزةٌ عن فهم الواقع اليوم في فلسطين، لأن مقاربة شاملة للامساواة والامتيازات التي يحظى بها المستوطنون ليست ممكنة دون فهم بنية الدولة نفسها. وعلى هذا النحو، فإنه لا يمكن فهم بنية هذه الدولة دون الرجوع إلى أصلها التاريخي.

من أجل احترام الرواية الفلسطينية لا بد من أخذ هذه النكبة بعين الاعتبار، ذلك أنها حدث مؤسِّس لكل ما نشهده الآن

في المنطق الذي تسوقه، يغدو تبني الرواية القائلة بأن إسرائيل تواجه الآن عواقب الاحتلال عام 1967 أو الانجرار المستمر نحو اليمين، ينطوي على كثير من التضليل، لأنه يُهمل الأساسات التاريخية لما يحدث الآن، فبنية الدولة في إسرائيل مرتبطة بمحو وتهجير الفلسطينيين في السنوات التي سبقت الـ1967 كما في السنوات التي تلقتها، وتعود إلى مسألتين أساسيتين: المسألة اليهودية والمسألة الشرقية؛ الأولى مشكلة أوروبية امتدت لقرون، والثانية رغبة أوروبية خارجية في التهام الممكن من أراضي الشرق التي كانت تنتمي إلى الدولة العثمانية. ولهذا، فإن القصة من أساسها مزيج من العنصرية والطمع والشعور بالتفوق. هذا إذا أردت الاختصار.

اقرأ/ي أيضًا: تأملات في مرايا النكبة المتقابلة

وحتى لو أردت أن تتجنب هذا التاريخ الطويل والمعقّد، فعلينا أن نتفق على أن القصة الفلسطينية المعاصرة تبدأ من نكبة عام 1948. من أجل احترام الرواية الفلسطينية لا بد من أخذ هذه النكبة بعين الاعتبار، ذلك أنها حدث مؤسِّس لكل ما نشهده الآن، وهذا ما توضحه أدبيات عديدة بشأن معظم حالات الاستعمار الاستيطاني، والمثال الحاضر في هذه الأيام هو تصريحات رئيس وزراء كندا الأخيرة بشأن اكتشاف أجساد الأطفال تحت المدرسة الكاثوليكية. إن تلك التصريحات التي اختصرت الفاجعة كحدث استثنائي في التاريخ الكندي لم ترق إلى الحد الأدنى من المقاربة الأخلاقية المطلوبة، لأن فهم واقع السكان الأصليين ومعاناتهم المستمرة، كما يشير مثقفون من السكان الأصليين أنفسهم، يجب أن ينطلق من فهم علاقة هذه المعاناة ببنية الدولة الكندية نفسها.

صديقي العزيز، لا ليست هذه يوتوبيا! فشوارع كل مدن العالم، والهتافات ضد الأبرتهايد الإسرائيلي، لمستْ عن قرب هذه الخلاصة. وبعد كل ذلك فإن مقاربة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي على أنه شيء يشبه الحرب الأهلية لن يكون مفيدًا. إنه نظام أبرتهايد وليست المشكلة في من يديره، إنما في وجود هذا النظام نفسه. ولن أحتاج إلى تذكيرك بأن أبشع المجازر الإسرائيلية بحق شعبنا الفلسطيني قامت بها نخب يسارية قبل أن يتولى نتنياهو السلطة.

ولا أظن أيضًا أنني أحتاج إلى تذكيرك بأحاديثنا السابقة، حيث أُصر على أن تفكيك النظام لا يعني رفض وجود اليهود في فلسطين، إنما رفض الشكل الاستعماري لهذا الوجود.

إذا كانت ألمانيا تريد أن تُكفّر عن واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ البشري فإن هذا يعني تطوير قدراتها على استيعاب آلام الضحايا الآخرين، أما دعم جريمة أخرى مستمرة بحجة جريمة سابقة فلا يبدو لي منطقيًّا. أتذكر أن إدوارد سعيد وصف نفسه مرة بالمثقف اليهودي الأخير، قاصدًا أن معاناته كفلسطيني أجدر بالمقارنة بمعاناة ضحايا المحرقة اليهود، وهذا يعني -في جانب منه- أننا كفلسطينيين لا نزال ندفع ثمن تلك المجزرة. لا نستلهم أوجاع ضحاياها وحسب، إنما أصبحنا أمام قاتل يملك الحق في أن يقتل الضحية الجديدة (أو ضحية الضحية إن شئتَ) ويُلبسها التهمة.

إن كانت هناك صورة حقيقية للصهيونية لم يشوّهها صعود اليمين فهي بالتأكيد صورة الآباء المؤسسين، أولئك الذين تسبّبوا بالكارثة التي نعيشها اليوم

أخيرًا، وكما وصفتَ كيف خَدَم الاستخدام العشوائي لتهم اللاسامية اليمينَ المتطرف، فإنني وضمن المنطق نفسه أعتقد أن اختزال المشكلة في إدارة نتنياهو، أو في اليمين المتطرف، سوف يُبرئ كثيرين من معارضي نتنياهو، وممن تكشف الوثائق تورطهم في المجازر ضد الفلسطينيين.

اقرأ/ي أيضًا: في معنى أن النكبة ليست حدثًا

إن كانت هناك صورة حقيقية للصهيونية لم يشوّهها صعود اليمين فهي بالتأكيد صورة الآباء المؤسسين، أولئك الذين تسبّبوا بالكارثة التي نعيشها اليوم، والذين للمفارقة تسبّبوا أيضًا في أنني أعيش الآن، كما أبي وجدّي من قبل، لاجئًا خارج فلسطين، محرومًا من الجنسية. أية مفارقة تلك في أنني أحتاج لأن أصبح ألمانيًّا ليحقّ لي أن أزور هذه البلاد، بلادي؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

اكتشاف رفات 215 طفلًا أصلانيًا ينكأ جراح الاستعمار الاستيطاني في كندا

5 كتب أساسية عن القضية الفلسطينية