14-يوليو-2020

لوحة لـ شوقي شمعون / لبنان

  • إلى معاذ أبو دلو

 

"يابو الطاقية أنا قلبي معاك

تعتب عليَّ وبترجاك،

ومن شباك لتاني شبّاك

حركض وراك..حركض وراك"

 

لنُفكك رومانسية الكلمات وجندريتها لتصبح مقبولةً لأهديكَ إياها، فالشبابيك مداخلُ القلوب، وما بعدها، أعني كل العُمر الذي نقضيه متأملين بإطاراتٍ خشبية وبلاستيكية، وزجاجاتٌ نتسابقُ لإفراغها كي نستمتعَ بتلك التي أحضرناها مؤخرًا، أي، بعبارةٍ أخرى، أن تُصبح الساعة أكثر من ستين دقيقة، والدقيقةُ أطول من ستين ثانية، والثانيةُ تكبرُ وتكبرُ فتصيرُ صورةً، وهذه الصورة لا "نيجاتيف" لها وليست رقمية، بل مطبوعة بتفاصيلها كفيلم، أو "Déjà  Vu".

حينَ قرر العالم أن يُنحينا وينظرَ إلينا بطريقةٍ لم تُعجبنا، أعلنا انتفاضتنا، ثورتنا كانت بسيطة هادئة، بدأناها بما لم يُعجبنا، فقررنا أن نأخذ أحلامنا إلى طابقٍ مهجور، كأغرابٍ دخلناه، والخوفُ كانَ جزءًا مما توقعنا، لكنَه تصلّبَ كالمسيحِ في صفوفِ المدارسِ المسيحية، ينظرُ إلينا كدخلاء عليه، ولكنه، هذا الخوف، حينَ رأى ما نحملُ من إصرارٍ، توجسَ منّا خيفةً، فمن يحملُ عَقلهُ كأنه تابوت يسيرُ بهِ إمّا إلى خُلودٍ أو هاوية، يستحقُ أن يُهاب.

الساعةُ التاسعةُ مساءً من كُلِّ يوم لها هيبةٌ مميزة. وإن خُضنا في تفاصيلها فسنرى قوامٌ صلبٌ وموعدٌ لا يُنسى، فحينَ دقَّت ذاتَ يومٍ من عقدٍ فات، بدأت الرحلة، وكانت ساعةُ سِعةَ صدرك الذي إستوعبَ الجميع، وكالرماد الذي يحاولُ جاهدًا الالتصاقَ بأمه السيجارة، كانَ الجميعُ يحاول أن يتشبهَ بك، لكنَ تلكَ اللحظة، الثانية، وربّما أقل، كانت تكسرُ جسراً يصلُ بينَ قارتين، فكنتَ أولَّ من يرأبه، ويُعيدَ تنظيم السير على الجهتين.

*

 

حارسُ ذاكرتنا كَسول، ولشدة كسله، غالبهُ النومُ في ليالٍ كثيرة، فأتاحَ فُسحةً مرَّ منها ما نشاء، وما لم نرغب، وفي اللحظةِ التي ننبشُ فيها تلكَ الزاويةُ المهملةُ في العقلِ والقلب، يقرصنا عقربُ التاسعة، فنستفيضُ في الوقوفِ على الباب، ولربما المدةُ التي تأخذنا في شُربِ كأس واحدٍ كفيلةٌ بأن تفيضُ الصور كنهر، فنتركها لساعتين أو أكثر من زجاجة.

كم طيفُ مر؟ وكم زفيرٌ ضاعَ في ضبابِ السجائر؟ وكم منفضةٌ أفرغنا؟ وكم قصةٌ خرجت من فمٍ كانَ يرغبُ بأن يقول فقط، وكم هزّةُ رأسٍ قُمنا بها دلالةَ موافقتنا المُجاملة وفي الروحِ كانَ خبطٌ يلوُّحُ لنا، بأن كفانا مضيعةً للهواء وللهراء، فالحياةُ أقلُّ من أحلامنا، وأوسعُ من قدراتنا.

*

 

لم نستسلم.

في اللحظةِ التي هبّت نَسماتُ أملٍ جديد، إحتضناه، وكنتَ أنتَ أباً لكلِ من طرقَ الباب، ولعلّنا آمنا حينها أنكَ قد أضعتَ المفتاح عَمدًا كي لا يَشعرَ أيٌّ كان، بأنه غريب.

في تقاطعاتِ الحياة نستسهلُ دائمًا إعطاءَ الأولوية لمن هو أقرب، لكنكَ أعدتَ صياغةَ هذا العُرف، فكنتَ تستأخرُ نفسك في كلِّ محفلٍ ضمَ ضيفًا للمرةِ الأولى، وكلُّ حربٍ خضتها دونَ قصدٍ منك، مُتخذًا وضعيةَ الدفاع تجاه قًطبٍ ما، يلومكَ ويهددك، خرجتَ منها مُنتصرًا، دون أن تُشعر أحد بأنه هُزم أمامك.

وللهزيمةِ مرارةٌ تلتصقُ بسقفِ الحلق، قد تختفي بعضًا من الوقت، لكنَّ أثرها، يبقى، كزيتِ السُمسمِ، نتناساه، ولا ننساه.

*

 

هُنا، في هذا الجُزء من العالم، حيثُ السماءُ منفتحةٌ على كلِّ لون، والأرضُ تكادُ تقعُ لخللٍ في توازنها، احفر على كلٍّ حجرٍ اسمك، فالذاكرةُ تتعاملُ بما ترى وليسَ بما تسمع، وحينَ تروادكَ نفسك للقيامِ بثورة بسيطة، تأكد؛ أن لا أفضلَ من بيتِ شعرٍ حفظناهُ سويًا، وتمنينا تمثيله.

"لأمريكا سنحفرُ ظلّنا، ونشخُّ مزّيكا على تمثالِ أمريكا".

*

 

ما هو الزمن؟

ذاتَ حوارٍ مع صديق، قال لي؛ أنَّ الزمن كعنصر فيزيائي، يختلفُ من موقع لآخر، ومنه تنطلقُ الأحاسيس، فما يفصلُ بينَ مَكانين قد يكونُ أقلَ مما نعرفه، وأكثر مما نشعرُ به. ولربما يكونُ تحويرٌ لما نعرفٌ من علمٍ كي يُناسبَ قدرتنا على فَهمه، أمّا الزمنُ المُجرد، هو ذلكَ الذي نشعرُ خلاله أننا قضيناهُ في سعينا لتحقيق جدوى ما.

إنّي على يقينٍ بأنَّ حياةٌ واحدة لا تكفيك، ولا نصٌّ واحدٌ سيختصرُ كلَّ ما مرَّ بنا، لكني أؤمنُ بما سوفَ يأتي، فهوَ نتيجةُ ما قررناهُ ذات هواءٍ مرَّ علينا، وإن كانَ سيختلف، فسنلويَ عُنقهُ ليُطيعنا، وسيفعل.

*

 

لا تدعَ الغيوم تُملي عليكَ أيَّ شيء، فما قُلتَ وما ستقول، سيكفي لنُعيدَ تعبيدَ هذا الطريق الذي تُريد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لولا الضوء

نحن العاديين