28-يونيو-2020

أنسليم كييفر/ ألمانيا

كثقلِ الخطوةِ الأولى التي لا نتذكرها، لكنها محفورة في سيرتنا التي يرويها الآخرون، أولُّ تَعَكُّزٍ قُمنا به، وهروبنا نحو أيَّ شيء سينقذنا من الوقوع، كضحكاتٍ سمعناها ولم نستطع تفسيرها، وكالتصفيق الذي فاجأنا ونحنُ نتلمسُ الطريق الأول، ككل هذه الذاكرة التي قيلت لنا ولم نحفظها، كطَعمِ أول قطرةِ حليبٍ ذقناها، وكُحلمٍ حلمنا به البارحة ولم نتذكره.

الكافُ في التشبيهِ هُنا لا تفسيرَ لها، كأي موقف أو حادثة أجبرنا عقلنا على محيه، كأنه لم يكن، وعودّنا ذاكرتنا على الانتقاء وانتخاب ما نُريد. مرّت بنا السنوات نُمارسُ ما نُمارسُ من أفعالٍ مقتنعين أنها تعكسُ ذاتنا التي نعرف، أمّا تلك، الذات – ذاتنا – التي لم نقم بتشكيلها فأهملناها، لم نعتقد يومًا أنها ذلك الجزءُ االذي يظهر دون أن نطلب، فيُذهلنا.

قد نستغربُ إيقاعَ كلماتنا في لحظةٍ ما، فنعودُ ليلتها لنراجعَ أنفسنا؛ هل قلتُ هذا؟ وحينَ لا نجدُ تفسيرًا لتصرفنا، نلومُ الظرف، أو الطرف الآخر، أو بقايا الكحولِ على اللسان، نلومُ أيَّ شيء لننقذنا من جلدٍ نحنُ في غنى عنه، نروادهُ ونحييده، كمن يلوذُ بعامودِ حديدي ليتّقي حرَّ الشمس، وإن لامسه، لسعتهُ بما خبأت من نار، فنقفزُ لاعنينَ هذا الكوكب ومتناسينَ نارنا.. تلكَ التي لم نُطفئها جيدًا حينَ استعرت بفعلِ فاعلٍ فينا.

*

كيفَ تضيء عتمةُ الليل كلَّ ذاك الشغف؟ وكيفَ صارَ للقمر وزنٌ أهملهُ أهلُ المدن؟ وهل للمدينة أسرارٌ تبوح بها لمن يقررُ أن يحضنها بعدَ أن يرتاحَ الشارعُ الرئيسيُ فيها؟

آخرُ العائدين في الليلِ يحملُ خَتمَ اليوم، دمغةٌ معقدةٌ تحويَ كلَّ ما مرَّ من أفكارٍ على هذا الرصيف، لحنٌ معقدٌ لم يعزفه أحد على وجه الخصوص، بل شاركَ به الجميع، خيطٌ متواصلٌ كأنه خريطةٌ جينية، فيها من كلِّ شيء القليل، وهذا القليلُ يكفي ليصبحَ حكاية.

والحكاياتُ التي لا تُكتب، تنتقلُ إلى جيلٍ أو جيلين على الأكثر ثم تذهبُ غذاءً للتراب.

لم يكن بإمكاننا اختيارُ مكانَ ولادتنا، فلا المكانُ ولا الساعةُ كانت ذات معنى، ولم نختر بأيِّ لونٍ نكون، لكننا، حينَ أعلنّا تفاصيلَ قدومنا، هبّت ريحٌ غريبةٌ أصابتنا بالغُربة، ولربما؛ لو علمت القابلةُ بما سنراه، لدعت في سرّها أن نبقى هُناك، في عتمةٍ مُسالمةٍ لا تُميزُ بين الألوان.

*

لولا صياحُ أشعةُ الشمسِ كلَّ صباح لكنّا جميعًا رماديين.

ولولا ما تفتّقَ عنه ذهنُ أحدٍ ما وابتكرَ الضوء الكهربائي، لصارَ الليلُ مثلنا، بذاتِ اللون.

نحنُ ضحايا الضوء، فالألوانُ تتماثلُ في العتمة.

*

لو أنَّ الليلَ كانَ بدايةَ الحياة لإنقلبتَ المفاهيم وصارَ هو الأصل، وهل من أحدٍ على هذه الأرض، في هذا اليوم، يعرفُ لونَ الأرض، حينَ تكونت؟

*

سنتركُ مفاتيحَ كثيرة حينَ يمتصّنا التُراب إن اخترنا ذلك، أو سنذوبُ في ماء سنحددهُ لمن سيُلقي رَماد الجزء الملموسِ منّا، وحينَ تحينُ تلكَ اللحظة؛ سنكونُ – أنا وأنتم – آخرَ الشهودِ على سيرةِ هذه الحكاية، وحينَ تضربنا لسعةُ الإجابة، سنبحثُ عن فمٍ لنقولَ من خلالهِ ما رأينا، وحينَ لن نجد، فسنستعينُ بالأحلام..

لكن؛

كلامنا الذي سيأتي كحلم،

لن يتذكرهُ أحد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لقد آلمنا ما عجزنا أن نسميه

مرثاة إلى خليل حاوي

دلالات: