17-نوفمبر-2022
مدينة الدوحة ليلًا

مدينة الدوحة

اختلطت الأمور في الفترة الأخيرة إلى درجة أنّ المتابع بات واثقًا من أنّ العالم مقبل على مونديال لحقوق الإنسان لا لكرة القدم.  ولعل كل من تابع النقاش الدائر- وغالبيته قذفٌ واتهام غربيّ لقطر علنًا، وللعرب والمسلمين ضمنًا- يظنّ أنّ كرة القدم هي جنة المثليين، مع أنّها لعبة ذكورية بامتياز، يتمتع قسم كبير من جمهورها بمواقف معلنة من التحيز الجنسي ضد النساء، وبرهابٍ لا تخطئه عين ضد المثلية، ناهيك طبعًا أنّ لاعبين مثليين كثرًا خاصة في الغرب أخفوا ميولهم لسنوات بسبب خوفهم من الآخرين في محيطهم، سواء العائلة أو الزملاء، أو حتى الجمهور. وعلى هذا، أليس غريبًا أن يكون هذا المكان نفسه، بكل المخاوف والمظالم التي يحتويها، فضاءً للحديث عن حقوق المثليين حين تكون ساحة اللعب عربية فقط؟ ألا تستحق الساحات الكروية العالمية، والأوروبية بشكل خاص، نقاشًا وعملًا لمكافحة هذه الذكورية في الأندية والملاعب؟ فكم من لاعب قرّر الاعتزال، أو فكّر حتى بالانتحار؟

كثير من السياسيين الغربيين يعارضون حقوق المرأة وزواج المثليين ويتبجحون بمقولات ذكورية متطرفة

 

الطريقة التي استخدمتها الدول الغربية، ولا تزال، تقول بشكل قاطع إن مونديال قطر غدا ميدانًا لاستعمال حقوق الإنسان كدعايةٍ أو كسلاحٍ، لأنها تصمت في المقابل عن مسائل حقوقية في العديد من الأماكن، خصوصًا في الصين وإسرائيل، وعلى أرضها وبين جنباتها، وليس أدلّ على ذلك من حركة "Black Lives Matter".

ولعل ما يوضح هذه المعايير المزدوجة أن ما نشهده الآن من دعاية سياسية لم يكن موجودًا بنفس الحدة في النسخة الأخيرة من كأس العالم، التي استضافتها روسيا، وكانت حينها قد قتلت عشرات آلاف المدنيين السوريين بصورة وحشية.

وبشكل عام، تشهد المناسبات الكروية الغربية عادةً صعودًا موازيًا لأنشطة الدعارة من أجل تأمين متعة المشجعين، وهذا يحدث دومًا في ألمانيا، سواء في المونديال أو في غيره من المناسبات الكروية الكثيرة، إلا أنّ نشاط الاتجار بالبشر لا يلاقي النقد الذي يستحقه ما خلا من بعض الجهات النسوية.

كثير من السياسيين الغربيين يعارضون حقوق المرأة وزواج المثليين ويتبجحون بمقولات ذكورية متطرفة. صحيح أن منهم من غيّر رأيه لاحقًا، ولن نذهب للقول إنه غيره ادعاء، بل لنقل إن الأمر كله جديد عليه، لكنه حين يضع هذه القضايا في سياق المونديال فإنه يلعب اللعبة القديمة للتيارات المحافظة، تلك التي ترفض أفكار التيارات التقدمية جملةً وتفصيلًا، لكنها تتمسك بها عندما يتعلق الأمر بشعوب أخرى، وبممارسة الاستعلاء العرقي ضد اللاجئين وغير البيض. ولعل ما يظهر ذلك جليًا، اتهام زعماء اليمين المعادين للمثلية مثل فيكتور أوربان وبنيامين نتنياهو وغيرهم للاجئين والعرب برهاب المثلية.

حملة الانتقاد ضد المونديال تقول أمرين، أولًا ضرب قوة عربية صاعدة من خلال مسألة حقوقية، وثانيًا هناك نوع من الإسقاط النفسي على الآخر. لديك مشكلة تكرهها في نفسك، إذًا ليس ثمة طريق أفضل للتخلص منها سوى تحميل وزرها للآخر. مثلًا، وبعد الحرب العالمية الثانية، حُرم المثليون الناجون من الاضطهاد النازي من الاعتراف بهم كضحايا، ولم يُغيّر وضع الذين أدينوا كمثليين من قبل المحاكم النازية قانونيًا من قبل البوندستاغ (البرلمان الاتحادي) حتى عام 2002، أي حتى وقت متأخر جدًا. بمعنى أن الدولة الألمانية الحديثة قبلت قوانين الدولة الألمانية النازية. وبهذا الشكل لا بد من الإسقاط، لأن تطهير الذات غير ممكن دون تأثيم الآخر، وهو ما يتجلى أيضًا من خلال الحملة المنظمة في الغرب من أجل اتهام الفلسطينيين والمسلمين بأنهم معادون للسامية.

لا يعني هذا النقد أن قطر معفية من إجراء مراجعة على الإطلاق، لكن المطلوب هو التعاون على تطوير الواقع الحقوقي، والتقدم في ملفاته المختلفة، في حين أن هذه الحملات تفعل ما هو معاكس لفكرة الحقوق نفسها، حين تعيد موضعة التمييز بين البشر من جديد: الأعلون والأدنون، والأفضلون والسيئون.

كأنّ حقوق الإنسان زينةٌ تجمّل من يرتديها وحسب، أو كأنها مواسم لتسجيل نقاط على الآخرين.

في النهاية، ما يقوله المونديال هو أن عالمنا يحتاج إلى تعاون، وكما في مجلات الغذاء والصحة والأمن كما في الحقوق والحريات. لكنّ شرط التعاون الأول هو التخلّي عن الشعور بالتفوق، لأن المتفوّق لا يحتاج إلى أحد.