09-نوفمبر-2022
كتب إنجليزية للأطفال

أخبرت صديقًا في الأمس أن ابني الصغير يعرف كلمة "Synonym". حصل ذلك مصادفة، بعد أن عدّد لي مرادفات (بالإنجليزية) لكلمة "كبير"، واحدة منها لم أكن في الواقع أعرفها أو أستخدمها، وإن كنت قد عرفت معناها من تفصيل مقاطعها التي تتشكّل منها. سيعرف هذا الصغير أيضًا في المكتبة، أن ثمّة قاموسًا يضمّ مثل هذه الكلمات المتشابهات، بطبعة للأطفال والناشئة، لفتت نظره، فالتقطها وغاص بها زمنًا، محاولًا تهجئة بعض المفردات المجنّدة على صفحات مليئة بالصور، ضمن كرّاسة غير مهدّدة بالتشقّق بين يدي الأطفال.

هل أنا سعيد بذلك؟

لوهلة قصيرة، نعم. أحبّ أن ألاحظ تطوّر الحصيلة اللغوية لطفل صغير. هذا أمرٌ مدهش. الأطفال يتفوّقون علينا في كثير من الأمور، خاصة حين يتعلق الأمر بالتكيّف اللغوي والاجتماعي. هذا لا يعني أن العمر عنصر حاسم دومًا فيما يتعلق باكتساب اللغة، بل هناك من يرى أن الكبار أكثر كفاءة في تعلّم لغة جديدة من الصغار، لو توفّرت لديهم الظروف الملائمة. أما الطفل فيتفوّق في جانبين أساسيين، الأول هو القدرة على اكتساب اللكنة أو طريقة النطق كما هي مسجّلة لدى المتحدثين الأصليين باللغة، والجانب الثاني والأهم هو أنه متخففٌ نسبيًا من القلق المصاحب لتعلّم اللغة. هذا أمر يؤكّده ريتشارد روبرتس في كتابه (Becoming Fluent)، الصادر عام 2014، إضافة إلى اللغوي الشهير ستيفن كراشن، ونظرية "الراشح/الفلتر"، والتي عدّد فيها بعض الموانع العملية التي تعيق عملية تعلّم واكتساب لغة جديدة. فالطفل في طبعه الراحة من كل الافتراضات المسبقة عن "صعوبة تعلّم اللغة"، ومحصّن غالبًا من إرهاق الوعي المفرط بالذات، والمعيق للتعلّم، مقارنة بنا نحن الكبار.

حاولنا الهرب، فحاصرتنا الإنجليزية بحمولاتها المعقّدة، وخذلتنا المحتويات العربيّة ومكتبتها

لكنّي رغم هذه الغبطة، أحببت دومًا لو كانت الحالة مقلوبة، وأن الصغير يتعلّم من العربية ويتعرّض لها، بقدر ما يتعلّم من الإنجليزية ويتعرّض لها. ينتابني شيء من الإحباط أيضًا إزاء هذا الفيض اللغوي الإنجليزي حول الأطفال، الذي لا بد من تعرضهم إليه، ولا سبيل إلى صدّهم عنه. هذا الإحباط الممزوج بالغصّة، يتضاعف كثيرًا، عند ملاحظة النقص والضعف في المادة العربية المخصصة للأطفال بمختلف أشكالها، كما يتضاعف أكثر عند تذكّر كل إمكانات الجمال التي قد يحرم منها طفلٌ يقف على عتبة واحدة من أجمل اللغات وأكثرها غنى، وقد يظل عمرًا بأكملها لا يراوحها، لا سمح الله!

الإنجليزية.. الوباء

في "أوراق أبو نواس" لأمل دنقل، نسمعه يقول: "من يملك العملة يمسك بالوجهين.. والفقراء بين بين"، لكنّي أحيانًا، ومن فرط التبرّم من هيمنة لغة واحدة على حيّزنا العام والخاص، أكاد أقرأها: "من يتقن الإنجليزية.. يمسك بالوجهين".

وهذا ليس مجرّد هلوسات تبرّم بالطبع، بل ثمة واقع يثبته. في آب/أغسطس 2001، نشرت بلومبيرغ مقالًا بعنوان لا يبتعد كثيرًا عن عبارة دنقل المحوّرة من طرفي أعلاه، يتحدث عن "االشرخ العظيم: كيف تصنع الإنجليزية الفرق بين الأغنياء والفقراء في أوروبا". يبدأ المقال بقصّة صبيّ إسباني من أسرة فقيرة، فاز بـ "اليانصيب"، وليس أي "يانصيب". ففي العام 1965، عرض أستاذ أمريكي على أبويه أن يصحب الطفل ابن العشرة أعوام إلى الولايات المتحدة، ووعد برعايته وتعهّده حتى يتمّ دراسته فيها. فوافقا، على أي يعود إليهما كلّ صيف للاطئمنان عليه. مرّت السنين، وحين عاد الصبيّ بعد عقد من الزمن، أدرك أن غنيمته الكبرى هي اللغة الإنجليزية التي صارت له لغة ثانية. كانت هي "اليانصيب"، الذي ضمن له عملًا في واحدة من كبرى الشركات الأمريكية في إسبانيا. بدأ المقال بهذه القصّة وانطلق بعدها ليعدّد الفرق الذي يترتّب على إتقان الإنجليزية في سوق العمل في أوروبا، حتى صارت هذه اللغة برزخًا فاصلًا بين طبقة وأخرى من الموظفين.

فبين العامين 1965 و2001، تعاظمت هيمنة الإنجليزية، لغةً لأوروبا، وللعالم. صارت هيَ اللغة "البهيموث، المتنمّرة، السرّاقة"، كما عنونَ جاكوب ميكانوفكسي مقاله في الغارديان عام 2018 عن الإنجليزية وطغيانها، أو هيَ اللغة "الوباء" بتعبير عالم الاتصال روبرت فيليبسون، صاحب كتاب "الإمبريالية اللغوية"، والذي لطالما حذّر منذ صدور كتابه الأول عام 1992، من تلاشي التعدّدية اللغوية لصالح لغة مهيمنة واحدة هي الإنجليزية، بدعوى أنّها "الترياق لجميع المشاكل التواصلية".

هذا الوضع الذي تتسيّد به الإنجليزية، كما يرى فيليبسون، ليس وضعًا عادلًا ولا مستدامًا، ويمثّل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، لا بدّ من مجابهته والبحث عن حلول بديلة عنه.

أنا لست "Dad" يا بابا

لطالما أرعبتني الإنجليزية. ثمّة سهولة مغرية فيها، لا يمكن تفسيرها لغويًا طبعًا، إذ ليس فيها على هذا المستوى أي سحر فريدٍ دون غيرها من اللغات، بل هي سهولة يفرضها الوضع العالمي الذي نمت فيه هذه اللغة حتى هيمنت عليه، وهو وضع يتمثل في مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم الحديث. وعليه فإن هذا الافتراض الشائع المقترب من البداهة لدى كثيرين حول أفضلية الإنجليزية لغويًا وثقافيًا، ليسَ إلا عرضًا لوباء أكبر، أو ربما وسيلة أساسية لتفشّيه منذ خمسينات القرن العشرين حتى اليوم. إنّه الوضع الذي نخال أحيانًا فيه أننا نتحدث لغة واحدة، ونأكل طعامًا واحدًا، ونلبس لباسًا واحدًا، تمامًا كما أمل ديفيد روثكوبف، في مقال له في "الفورين بوليسي" عام 1997، حرّض فيه بكل صفاقة على تعزيز هذه "الواحديّة الأمريكية المعولمة" فيما يتعلق باللغة المشتركة والتواصل ومعايير الأمن، والقيم "التي يلزم أن تضمن راحة الأمريكيين". هذه الراحة كما يرى روثكوبف، الذي كان مستشارًا مقربًا من عدد من الرؤساء الأمريكيين، هي مكافأة مستحقة للأمريكيين، ذلك أنه "لا سبيل لإنكار حقيقة أن هذه الأمة الأمريكية، من بين كل الأمم التي عرفها التاريخ، هي الأكثر عدلًا وتسامحًا والأقدر على تقييم ذاتها وتحسينها، وأنها النموذج الأفضل من أجل المستقبل".  هكذا أصبحت القيم الأمريكية قيمًا عالميّة، أو يحتاجها العالم، وفائدتها للعالمَين مشتقّة وحسب من مقدار فائدتها للأمريكيين واتساقها مع مصالحهم. أما التخوّف من أثر ذلك، على لغات البشر وثقافاتهم وحقوقهم، فليس في نظره إلا تهويشًا متأزمًا من "القوميين الجدد" وأرباب "الرومانسية الثقافية" الذي يتشبثون بمحض أوهام لا قيمة لها في واقع معولم.

لكن هذا الرعب ظلّ حالة نظريّة وحسب على الصعيد الشخصي، حتى فترة قصيرة على الأقل. كنت أتحاشاه دومًا بحيل عديدة، عبر حوائط صدّ من الكتب والقواميس العربيّة في المنزل حينًا، أو اللجوء إلى تعلّم لغات جديدة أحيانًا أخرى، والتأمّل في كل ما يضمن ثبات هذه اللغة التي تعبّر عنّي، والعجب من الخوف المبالغ فيه على اللغة العربية، والخوف، مع الأستاذ عارف حجاوي، من الخائفين عليها.

تغيّر ذلك، فجأة، حين بدأت ألاحظ التطوّر اللغوي لابني في المنزل. الرعب من نسيان اللغة لم يتلاش، وكلّ حيلي أعلاه ذهبت سدى. شعرت أن هذه الإنجليزية باتت عقابًا من نوع ما، وتضخّم الرعب منها مع السنوات، حتى بت أشعر أني أضعف من السيطرة عليه. أنكون نخسر من العربية بقدر ما نتعلّم من غيرها؟ مرّة نادى عليّ ابني: Dad، فنهرته، ولحسن حظّي أنه قدّر الأمر سريعًا، وعرف أنّي لن أستجيب أبدًا لمناداته لي بغير "بابا".

لكني في الوقت ذاته، رأيت أن “Peppa Pig" و "ستيف آند ماغي"، أفضل بمئة مرّة من "يا بابا سناني واوا". ورأيت في الخيارات الإنجليزية مهربًا ضروريًا من رداءة المحتوى العربي، وحصنًا يصرف "طيور الجنّة" وعدواها على حواس الطفل ولغته وأفكاره. حاولنا الهرب، فحاصرتنا الإنجليزية بحمولاتها المعقّدة، وخذلتنا المحتويات العربيّة ومكتبتها.

لا مفرّ من الإنجليزية، هذا صحيح. البعض نصّبها ملكة مطلقة على اللغات، وأسقطوا أي احتمال قريب لتهديد عرشها، الذي تحمله ترسانة عسكريّة واقتصادية، وقطاع لتعليم الإنجليزية لا يقلّ حجمه عالميًا عن 50 مليار دولار أمريكي، ويعتاش على حالة من التجريف المستمرّ في رأسالمال المعنوي لبقية لغات العالم، وهو تجريف يعني بالضرورة تجريف القيمة في كل جوانب الحياة الأخرى لأهلها، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا.

هيمنة الإنجليزية تعني تجريفًا لقيمة جوانب متعددة من حياة شعوب العالم اقتصاديًا وسياسيا واجتماعيًا وثقافيًا

غير أننا نرسل أبناءنا حقًا بأيدينا إلى المدارس كي يتعلّموا بالإنجليزية. ليس من العدل حرمانهم من ذلك، لكن علينا على الأقل أن نكون مثل تلك المرأة الجريئة وسليمة الحسّ التي نقل قصتها كيليطو في أحد كتبه، والتي التقاها إيمي سيزار مرّة وأخبرها بأن التعليم في المدرسة سيكون باللهجة المحليّة، فغضبت على نحوٍ مفاجئ، وقالت له: "أنا أرسل ابني إلى المدرسة لتعلّم الفرنسية، أما لغتي فأنا أتكفّل بتعليمها له في البيت". وفي هذا الكلام، كما يقول سيزار، شيءٌ من الحقيقة والعقل.  

 

المهمّ، قبل أسبوعين فقط. حفظ الطفل الصغير أول سطر من الشعر العربي.