22-يونيو-2023
أفيشات السينما المصرية

أفيشات أفلام الخوف، والاختيار، والتخشيبة

هذه المساحة مخصصة لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.


ليست السينما المصرية مخرجين وممثلين وكتّاب سيناريو فقط، ولا يبدو التركيز على هؤلاء عند الحديث عنها أمرًا مفهومًا لما يتضمنه من تجاهل، قد لا يكون مقصودًا، للكثير من التفاصيل والعناصر الأخرى التي قد تبدو بالنسبة للبعض هامشية وجانبية لا دور لها في نجاح هذه الصنعة. ولكنها في الواقع ركنًا أساسيًا من أركانها، وفصلًا من فصول حكايتها التي لا تكتمل دونها.

الأفيش، أو الملصق، أحد أهم هذه العناصر الغائبة عما وضعه الباحثون والمؤرخون والنقّاد من كتبٍ تتناول السينما المصرية سواء بالنقد أو التأريخ. فباستثناء بعض المؤلفات التي تُعدُّ على أصابع اليد، تلك التي وضعها أشخاصٌ مهتمون بهذا الفن، لم ينل الأفيش حقه من البحث والدراسة والتأريخ.

أصبح الأفيش بعد الاعتماد على الرسم باليد في تصميمه أكثر قدرةً على جذب المشاهد والتعبير عن مضمون الفيلم ورسالته

كما لم ينل رسّاموه حقهم من الاهتمام لدرجة أن بعضهم لا يزال مجهولًا حتى هذه اللحظة، بينما لا نعرف عن بعضهم الآخر سوى الاسم الذي وقّع به رسوماته، أو اسمه الحقيقي، وأحيانًا تاريخ ميلاده وبعض التفاصيل الأخرى البسيطة المتعلقة به.

الأفيش بوصفه مدخلًا لعالم الفيلم وأجوائه

لم يكن الأفيش في بداياته سوى محاولة للإعلان عن الفيلم أكثر منها محاولة للترويج له، إذ لم يتضمن في حينها سوى صورة لبطل أو بطلة الفيلم إلى جانب أسماء المشاركين في بطولته، واسم مخرجه، دون أي اهتمام بالجانب الفني أو الجمالي والاعتماد عليهما لجذب المشاهد.

ومع الوقت، بدأ صنّاع السينما يدركون أهمية الجانب الجمالي والفني في الترويج لأفلامهم، وقد تزامن ذلك مع ظهور رسّامين تعاملوا مع الأفيش بوصفه عملًا فنيًا خالصًا يُرسم باليد بطريقة تعبّر عن طبيعة الفيلم ومضمونه ورسالته بشكل غير مباشر يتوسل الإثارة والتشويق. ولذلك كان على الرسّام مشاهدة الفيلم قبل الشروع في رسم الأفيش بوصفه مدخلًا لعالم الفيلم وأجوائه.

أصبح الأفيش بعد الاعتماد على الرسم باليد في تصميمه أكثر قدرةً على جذب المشاهد والتعبير عن مضمون الفيلم ورسالته، كما أصبح أكثر مرونةً وقابليةً للتطور ومجاراة تطور فن السينما نفسه، خاصةً مع ظهور جيل جديد من الرسامين الذين ساهموا في تطويره.

ولأن صناعة الأفيش كانت متأثرة، بشكل شبه مباشر، بالأوضاع السياسية والاجتماعية، بوسعنا النظر إلى الأفيش اليوم بوصفه شاهدًا على تحولات المجتمع المصري، وجزءًا من الذاكرة الجمعية المصرية، بل ومدخلًا أساسيًا لا لفهم صناعة السينما في تلك الحقبة فقط، بل لفهم نمو فن الملصق في العالم العربي.

رسّامو الأفيش المجهولون

تشير الكتب القليلة التي سعى مؤلفوها للتأريخ لفن الأفيش إلى أن اليونانيين هم الذين نقلوا هذه الصنعة إلى المصريين، الذين اشتغلوا على "تمصير الأفيش" بعد إتقانهم لقواعده وقوانينه. كما أشارت أيضًا إلى أن راغب وعبد الرحمن هما أول من أتقن هذه الصنعة في مصر، وأن معظم من جاء بعدهم كان قد تتلمذ على يدهم، ومنهم جسور الذي يُعد أشهر رسامي الأفيش على الإطلاق.

أفيشات أفلام مصرية

تتلمذ جسور، واسمه الحقيقي حسن مظهر، على يد راغب الذي لا نعرف عنه سوى اسمه وبعض الأفيشات التي رسمها، مثل: "سفر برلك"، و"مكتوب على الجبين"، و"سلوا قلبي". هذا كل ما سنعود به عند البحث عنه في محرك البحث "غوغل"، شأنه شأن الكثير من الرسّامين الآخرين الذين لا نعرف عنهم سوى الاسم الذي وقّعوا به أفيشاتهم.

لكنها قد لا تكون أسماؤهم الحقيقة، إذ اختار بعضهم التوقيع بأسماء مستعارة أو فنية، مثل جسور، بينما اكتفى بعضهم بوضع اسمه أو اسم عائلته، مثل عز الدين الذي لا نعرف إن كان هذا اسمه أو اسم عائلته، ولم نجد ما يعرّف عنه عند البحث عنه بعد أن صادفنا الاسم على أفيش فيلم "دموع الحب" لمحمد كريم. كما لم نجد ما يعرّف بأسماء أخرى مثل أنديرا الذي صادفناه على أفيش فيلم "الروح والجسد" لحلمي رفلة، وزكي مرسي على أفيش فيلم "حكم القوي" لحسن الإمام، وسمير ثابت على أفيش فيلم "زهور برية" ليوسف فرنسيس، وغيرهم.

يبقى جسور أهم رسّامي الأفيش المصريين وربما أكثرهم غزارةً أيضًا. فمن بين أكثر من 200 أفيش صادفناه، هناك 25 منها يحمل توقيعه، مثل: "الاختيار" ليوسف شاهين، و"قاطع طريق" لحسن الصيفي، و"صائدة الرجال" لحسن الإمام، و"شفيقة ومتولي" لعلي بدرخان، و"شادر السمك" لعلي عبد الخالق، و"موعد على العشاء" لمحمد خان، و"النمرود" لعاطف سالم، و"نغم في حياتي" لبركات، وغيرها.

تميّز جسور المولود سنة 1925 برسمه للأشخاص بطريقة تتجاوز مجرد التصوير إلى إبراز المشاعر الداخلية والتعبير عن الروح، إلى جانب جمع عناصر عديدة متناقضة في مساحة واحدة دون أن تطغى إحداها على الأخرى رغم ضيق الحيّز الذي يشغله بعضها.

مثّل جسور مدرسة خاصة في رسم الأفيش، شأنه شأن محمد عبد العزيز الذي يوصف بأنه مؤسس المدرسة الواقعية بسبب رسوماته الواقعية التي تعود إلى مهارته في رسم الوجوه التي تتجلى في أفيشات أفلام مثل "شيء من الخوف" لحسين كمال، و"ألف ليلة وليلة" لحسن الإمام، و"كهرمان" للسيد بدير، و"شوق" لأشرف فهمي، وغيرهم.

يُعد الأفيش جزءًا من الذاكرة الجمعية المصرية ومدخلًا أساسيًا لفهم صناعة السينما في تلك الحقبة

لم يكتف محمد عبد العزيز بالرسم فقط، بل قام أيضًا بتعليم هذه الصنعة لعدة أشخاص برزوا في هذا المجال، أشهرهم أنيس مرتضى الذي عمل في مكتب عبد العزيز حتى وفاته. ويُعد أنيس من أكثر رسّامي الأفيش المصريين غزارةً، إذ قدّم خلال مسيرته ما يزيد عن 400 أفيش كان أولها أفيش فيلم "الشباك" لكمال صلاح الدين.

لا يكتمل الحديث عن صناعة الأفيش دون الوقوف عند تجارب فنانين آخرين مثل أنور علي الذي رسم العديد من الأفيشات المميزة، مثل أفيشات أفلام "التخشيبة" و"الحب فوق هضبة الهرم" و"الهروب" لعاطف الطيب، و"الشياطين في إجازة" لحسام الدين مصطفى، و"الخوف" لسعيد مرزوق. وكذا اليوناني فاسيليو الذي رسم أفيشات أفلام "قيس وليلى" لأحمد ضياء الدين، و"امرأة في الطريق" لعز الدين ذو الفقار، و"الخطايا" لحسن الإمام، و"دماء على النيل" لنيازي مصطفى، و"جعلوني مجرمًا" لعاطف سالم. ناهيك عن أحمد فؤاد، ومرسيل، وعزيز، وخليل، وغيرهم.