أن تقرأ مسلسلًا في رواية، ثم تعيد قراءة الرواية في المسلسل، فالمقارنة واقعة حكمًا بين الأصل والتجسيد.
هي جريمة عابرة -ربما- بين عشرات الاقترافات الجنائية التي كتبت عنها الكاتبة الأشهر آغاثا كريستي. لكنها في الذاكرة جريمة طريّة لم تجف دماء المغدورة فيها بعد. تنام كالجمر تحت رماد السنين ولا تحتاج إلى ما يحركها لتتقد من جديد.
لحسن الحظ، في عصر الـyoutube لم يعد من الصعب أن تلتقط بعضًا من ماضيك في فيديوهات متفرقة على شاشة حاسوبك
يعود الأمر إلى منتصف التسعينيات حين عرضت إحدى الشاشات اللبنانية مسلسلًا سوريًا تحت عنوان "جريمة في الذاكرة". اختصار جذّاب لمضمون لن يبقى منه في حواس من شاهده لا سيما من أطفال تلك الفترة إلا فكرة هشّة. مرعبة تتضخم تباعًا بإسقاطات تحاول ملء النسيان من جهة، وتأويل المتذكّر لبلورة قصّة فيها من الرعب ما يكفي المسلسل ويزيد.
اقرأ/ي أيضًا: حديث الصباح والمساء: المقبرة والقابلة والمتن!
لحسن الحظ، في عصر الـyoutube لم يعد من الصعب أن تلتقط بعضًا من ماضيك في فيديوهات متفرقة على شاشة حاسوبك. قد لا تجده من المحاولة الأولى، لكن البحث سيوصلك حتمًا إلى ضالتك أو إلى أخرى أكثر إدهاشًا. وجريمة كريستي حُمّلت بعد ما يزيد عن عشرين عامًا على الموقع الإلكتروني وبات بإمكان المشاهدين العرب -أولئك الذين اختبروا الرعب الإنجليزي بنكهته السورية أو المهتمون بذلك- حبس أنفاسهم وتذوّق "فورة" الأدرينالين في عروقهم عبر 17 حلقة لن تقاطعها الإعلانات. تقطعها أخيلة من مشاهدات سابقة أغلب الظن.
لعلّ ما يبقي على الجريمة التي ارتكبت في أحد البيوت وعلى مرأى من عيني طفلة، حفظت المشهد واستذكرته حين عادت لتشتري بفعل لا واعٍ البيت نفسه بعد أن شعرت بما يختصره التمييز بين كلمتي (house وhome) فعاشت تداعيات هذه الذكرى والمسعى إلى التنقيب عنها والوصول أخيرًا إلى حلّ اللغز والإيقاع بالفاعل.
تلك الحبكة العبقرية التي عُرفت بها كاتبة "الجرائم" الإنجليزية. لكن ما يجعلها استثنائية وراسخة في الأذهان هو ذاك السيناريو الذي ترجم الرواية ليس بالحرف فحسب بل بالأداء الصامت والناطق الذي كتبه السيناريست محمود عدوان، وأخرجه بإتقان مأمون البني ناقلًا عن تلك الرواية "لبّها" بعد أن كساه بقالب سوري فجاء المسلسل ابن بيئته لا مفتعلًا لمجرد تمثيل المقتبس.
المنزل ذو الطبقتين، والذي يشكل الكادر المكاني الأساسي للمسلسل، وأحد أبرز عناصره لا بل العنصر الأهم، لن يكون بالإمكان نسيانه. هو أيضًا بواجهته الخارجية وديكوره الداخلي وسلالمه التي تلعب دورًا محرّكًا في المسلسل سيظلّ حاضرًا عند المشاهدة وبعدها، كمفتاح للذكرى يبقي على شيء من الفكرة التي يدور حولها العمل.
أما الزمان فمسألة أخرى لا تقلّ أهمية، قوامها الآن "نوستالجيا" شبقة إلى أسلوب حياة ذلك الوقت. صحيح أن المسلسل كان "آخر موضة" في مطلع التسعينيات (صوّر في العام 1992)، إلا أنه يبدو في العام 2016 "أنتيكا" مناقضة لسلوكنا اليومي: البرقية وتحويل الاتصال وانتظاره من بلاد الاغتراب قبل بزوغ أي فكرة عن الإيميل والهاتف الذكي بما فيه من تطبيقات للتواصل. ناهيك عن موديلات السيارات، الأزياء، أساليب الديكور، وأقلّه الألوان التي تظهر فيها المشاهد على الشاشة بشحوبها الذي يتشابه مع ألوان الباستيل.
الموسيقى التصويرية التي تشكل عاملًا محفزًا للخوف ومثيرًا للرعب في السينما والتلفزيون، لم تخرج عن كونها خلفيّة تقطع مساحات الصمت وتعطي زخمًا لبعض الحوارات المفصليّة، لكن المخرج لم يلجأ إليها لإعادة توازن مطلوب في تلك الجريمة المحفورة في الذاكرة والجثة التي نجمت عنها ودُفنت في الحديقة.
اقرأ/ي أيضًا: في حضرة العميد أسامة أنور عكاشة
فأي من العوامل الأخرى لم يأتِ باهتًا، بل بمقداره ومعياره دون زيادة أو نقصان، وبالتالي لم يضطر البني إلى استخدام البروق والرعود وغيرها من المواد الصوتية ليؤكد أن ما يقدّمه مسلسلًا مخيفًا.
مسلسل جريمة في الذاكرة كان "آخر موضة" في مطلع التسعينيات (صوّر في العام 1992)، إلا أنه يبدو في العام 2016 "أنتيكا"
أما الممثلون: سمر سامي، مي سكاف، سلوم حداد، عبدالهادي صبّاغ، ليلى سمّور وآخرون. فهؤلاء جميعًا كانوا في العام 1992 في ريعان شبابهم العمري والتمثيلي، يؤدون في ذلك الحين أدورًا تثبت مواهبهم عند أو بعد فترة من انطلاقها. وقد قدّموا أداء مقنعًا يشكل تفاعل المشاهد معه مرآة دقيقة لنجاحه.
على أن الأداء الأبرز يبقى للراحل خالد تاجا الذي تفوّق بما قدّمه لجهة إخفاء جريمته بإتقان عن المشاهدين ثم فضح نفسه بنفسه في لعبة مد وجزر ذكيّة وإراديّة مع تقدم الحلقات، فشكل بجريمته وما سبقها وتبعها من مشاهد ظلًا قاتمًا لصورة العاشق المجرم لن تُنسى بسهولة.
بين "الجريمة النائمة" التي كتبتها آغاثا كريستي و"جريمة في الذاكرة" التي صُوّرت في مسلسل سوري، بعض التشابه وكثير من الفوارق. الخط التصاعدي للحبكة ثم تقهقره قد يكون واحدًا لكن "تعريب" الشخصيات ونقل الحوار واختيار المكان والزمان وحتى الخاتمة "العربية" المفتوحة على أكثر من احتمال جاء كله سوريًا وأضاف إلى العمل الروائي الأصلي، وكأنه ردّ على جميل "القصّة" بجميل التحرير والتصوير والعرض والمشاهد "النائمة في الذاكرة" والتي تستيقظ بين الحين والآخر.
اقرأ/ي أيضًا:
صراع العروش.. حين يضعك الإبداع في مأزق
نبتدي منين الحكاية.. هل هذه دمشق فعلًا؟