02-يوليو-2016

أسامة أنور عكاشة

"عن مشواره والحلمية وتجليات الزمن الرديء"

ربما يكون لأمي الفضل الأول فى تعريفي بالراحل العظيم أسامة أنور عكاشة، كنا في أواخر التسعينيات وكان التليفزيون يعرض حلقة من مسلسلها المفضل "الشهد والدموع"، مررت من أمام الشاشة بلا مبالاة، فكان رد الفعل المباغت متمثلًا فى شخطة عنيفة ألزمتني مكاني مندهشًا. لم تكن أمي لتقبل بأي حال أن يُضيع عليها أحد ولو لحظات من مشاهدتها لنفسها على الشاشة، نعم كانت أمي فى نظر نفسها زينب التي ضحت بكل شيء وتحملت كل شيء فى سبيل تربية أبنائها ورعايتهم قدر ما تستطيع، وقد فعلت ولم تزل -متعها الله بالصحة والعافية- هذه السيدة التي لطالما اعتبرت نفسها زينب الدموع وقلما كانت زينب الشهد.

لدى الرجل رؤية، لديه الأداة، ولا يفتقر بحال للموهبة الفذة أو الحس الإنساني المتفرد، إذن أسامة أنور عكاشة يستحق متابعة أعماله والتنقيب عن منجزاته الدرامية

إذن جسّد أسامة المعاناة وعبر عنها كأفضل ما يكون التعبير، إذن هو يكتب من بين الناس لهم وعنهم، إذن فلدى الرجل رؤية، لديه الأداة، ولا يفتقر بحال للموهبة الفذة أو الحس الإنساني المتفرد، إذن هو يستحق متابعة أعماله والتنقيب عن منجزاته الدرامية، وربما بعض من كتاباته خارج سياق الدراما.

لعميد الدراما التليفزيونية العربية وجوه كثيرة، لا يعنيني منها هنا سوى وجه المبدع صاحب المشروع الدرامي/الأدبي الهام، والذى أجاد من خلاله عرض وتحليل سمات الشخصية المصرية -كان دارسًا لعلمي الاجتماع والنفس-، ومراحل تطور/تدهور المجتمع المصري عبر عقود طويلة امتدت من الحقبة الناصرية وحتى رحيله قبيل ثورة يناير العظيمة بأشهر قليلة.

اقرأ/ي أيضًا: "الكينج منير" مطرود من رحمة "النوبة" مجددًا

وفيما يلي تطواف موجز، يشمل أهم المعاني والمفاهيم التي شكلت رحلة هذا المبدع الكبير، ووسمت مراحل مشواره الإبداعي الحافل.

الوطن

عشقُ مصر المتيم بها وبأهلها، هو الملمح الأهم في كتابات أسامة أنور عكاشة وأعماله الدرامية والسينمائية، حاول أسامة متأثرًا بنجيب محفوظ استلهام مشروع الأخير الروائي، وصياغته بطريقته الخاصة عبر تدشين ما عرف باسم الأدب التليفزيوني، الذى يرتقي بالدراما التليفزيونية من مجرد كونها حكايات بلا معنى ولا قيمة تجاوز حد التسلية غالبًا، إلى محاولة طرح ومناقشة القضايا الاجتماعية، والسياسية، والقيمية الهامة التى تؤثر على مجمل حياة المصريين حاضرًا ومستقبلًا.

وتبدى ذلك منذ أعماله التليفزيونية الأولى كأبواب المدينة، وقال البحر، والشهد والدموع، وعصفور النار، حيث طرح من خلالها تساؤلات المعنى المتصلة بقيمة حياة الإنسان العادي، ودور الشارع والجماهير في صناعة أقداره وأبطاله، مرورًا بصراع الطبقات وتناحر الأخوة سعيًا وراء الاستئثار بالمال والنفوذ، ووصولًا إلى رحلة أبو العلا البشرى ثم أبو العلا 90 وتحلل منظومة القيم والعادات والتقاليد المصرية العريقة.

ثم الراية البيضاء، وأنا وإنت وبابا فى المشمش، وصراع الرأسمالية الجديدة للاستحواذ على كل ما يمكن شراؤه، والفساد الوظيفي والإداري في بدء توغله وتحوله لنمط حياة وقاعدة تحكم سلوكيات الغالبية من المصريين.

وسينمائيًا جاءت أعمال ككتيبة الإعدام والهجامة لتبرز أدوار البطولة المجهولة للإنسان المصري ومدينته فى العمل الأول، مثل سيد الغريب ابن السويس. وفساد عصر السادات وزيف شعاراته فى العمل الثاني -كان أسامة ناصريا ثم لم يعد-، ثم دماء على الأسفلت الذي ربط السياسي بالإجتماعي في عرضه لرحلة تخبط وتفكك أسرة مصرية بدءًا من اتهام الأب بالسرقة وصولا لسقوط البنت الصغرى في هوة الإدمان وبيع الهوى لمن يدفع.

عشقُ مصر المتيم بها وبأهلها، هو الملمح الأهم فى كتابات أسامة أنور عكاشة وأعماله الدرامية والسينمائية

ومسرحيًا ورغم أن عكاشة لم يكن كاتبًا مسرحيًا محترفًا، لكن من الضروري هنا أن نثبت أن مسرحية كمسرحية "الناس اللي في التالت"، التي كتبها أسامة تؤكد موقف هذا المبدع الكبير من رفض الحكم العسكري الفاشي والقمعي بشكل بات وقاطع.

الهوية

من نحن؟ كيف نحيا؟ وإلى أين المسير؟ أسئلة شغلت بال أسامة وصارت مركزية فى جل أعماله على تنوع مساراتها، سؤال الهوية كان مؤرقًا لكاتبنا منذ بداياته، وتأتى ملحمة ليالي الحلمية كأبرز الأعمال وأشهرها والتي حاول الكاتب من خلالها رصد التحولات التى طرأت على الشخصية المصرية، وصراع المبادئ والقيم بين نقيضين، يمثل كل منهما منظومة اجتماعية وثقافية مغايرة هما العمدة سليمان غانم، والأرستقراطي سليم البدرى. صراع يندلع ويستمر فى إطار تطواف تاريخي يبدؤه الكاتب منذ العهد الملكي وحتى العهد الساداتي فى الجزء الخامس والأخير من المسلسل، ويتخذ أثناءه حي الحلمية كرمز ونموذج مصغر للمجتمع المصري بأكمله، ملاحظًا التحولات إيجابيها وسلبيها التى طرأت على الحي وسكانه وسلوكياتهم. ويتابع الكاتب فى مسلسلات ضمير أبلة حكمت وأرابيسك وزيزينيا رصد المتغيرات الإجتماعية والثقافية والسياسية التي تعرض لها المصريون.

إما فى إطار علاقاتهم الشخصية والمهنية نموذج مسلسل ضمير أبلة حكمت والست الناظرة فاتن حمامة حارسة التقاليد والقيم، أو في علاقتهم بالإرث الفني والحضاري المخزون، بداخل أصاحب المهارات الفنية والجمالية من أهل الحرف والصنائع مثال الأسطى حسن أرابيسك المعجون بطمي هذا الوطن والحامل لجينات تفوقه وفشله بداخل ذاته المتقلبة. أو في تواصلهم واحتكاكهم بالثقافات الأجنبية التي عايش أهلها المصريين وتفاعلوا معهم بقدر الحاجة والضرورة، فنشأ عن ذلك صراع لا ينتهي بين المقيم والعابر، الأصيل والدخيل وتجسد ذلك فى شخصية بشر عامر عبد الظاهر نصف المصري من ناحية أبيه، نصف الإيطالي من ناحية أمه.

اقرأ/ي أيضًا: وليد سيف.. 5 مسلسلات لا تفوّت

الناس

"حكايات عن الناس والمكان" كانت هذه هي العبارة التي صدر بها أسامة أنور عكاشة مقدمة مسلسه "أبواب المدينة" في بداية الثمانينيات، وأوضح بها افتتانه بتأمل الأماكن والناس كمواد درامية أصيلة لأي مبدع جاد له رؤية يسعى لطرحها عبر دراما الحياة على الشاشة الصغيرة. شخصيات العم أسامة هي شخصيات محفوظية فى كثير من ملامحها، لم يخف أبدا أسامة عشقه وتأثره بعميد الرواية العربية، بل إن عنوان أحد أهم مسلسلاته الشهد والدموع، استقاه من جملة المفتتح فى رواية ميرامار لنجيب محفوظ: "الإسكندرية، قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع".

تبعًا لذلك كان أسامة يعتني برسم شخصيات لها سمات الواقعية والمصرية فكرًا وسلوكًا، والأهم لغة. فالقاص الذى اتجه للدراما -بعد صدور مجموعته القصصية خارج الدنيا التي لم تلق النجاح المأمول- كان حريصًا على أن تكون جملته الدرامية لا هي بالمبتذلة أو التقليدية، ولا هي بالمتكلفة أو الشعرية المتناقضة مع طبائع شخصياته. ولعل ذلك ما أنتج لنا جملًا وعبارات ظلت محفورة فى وجداننا نطقت بها شخصيات أسامة الباقية في الوجدان مثل المعلمة فضة المعداوي "وله يا حمو التمساحة يالا"، العمدة سليمان غانم "خيبة الله عليك"، الأسطى حسن أرابيسك "يووووه يا عمارة"، وغيرها الكثير. فجعل من حوارات مسلسلاته معبرًا لعرض الكثير من الأفكار والتساؤلات التى ما فتئت تشغل العقل الجمعي المصري باحثة عن أجوبة، وربما عن يقين مفقود.

الإسكندرية والبحر

وقال البحر، النوة، زيزينيا، عفاريت السيالة، كناريا وشركاه، عن البحر والإسكندرية التى عشقها كأحد أبنائها -رغم أنه ليس سكندري بالميلاد-، كتب وقال الراحل أسامة أنور عكاشة الكثير.

جعل عكاشة من حوارات مسلسلاته معبرًا لعرض الكثير من الأفكار والتساؤلات التي ما فتئت تشغل العقل الجمعي المصري

كثيرون من المصريين وأنا منهم تربطنا علاقة حب من -طرف واحد غالبًا- بالإسكندرية دون مبرر واضح أو سبب مفهوم. لكن أسامة كان عاشقًا لعروس الشمال ولبحرها وأهلها، اتخذ لنفسه منزلًا بها وصار من سكانها، كي يفسح لنفسه المجال لتأمل أمواج البحر والأخذ منه والرد عليه، في أحاديث عذبة مطولة نقلها روائيا ودراميا عبر أعماله، فكانت الإسكندرية موئل الكاتب وملاذه الآمن حيث كتب أعماله جميعها هناك. عشق ربما شاركه فيه وسبقه إليه النجيب صاحب نوبل إذ كان يقضي أصيافه أيضا بالإسكندرية، ليطرح التساؤل نفسه -ربما-؟ عن سر هذه الدرة الساحلية التى شُغفت قلوب الكثيرين بها حبًا، وصارت من قديم وإلى عهد الفتح العربي لمصر منارة الدنيا ومدينة العالم وقبلة المبدعين.

أسامة وإسماعيل

لم تكن أبدًا علاقة كاتب بمخرج، مثلت علاقة أسامة أنور عكاشة بالمخرج إسماعيل عبد الحافظ علاقة إنسانية وفنية فريدة. فالمبدعان المنتميان لمدينة واحدة هي كفر الشيخ، امتزجت موهبتيهما وتوحدت رؤاهما الفكرية والإبداعية منذ لقائهما الأول في سباعية أسوار الحب في أواخر السبعينيات، مرورا بالشهد والدموع، ثم ليالي الحلمية منجزهما الأهم، إلى جوار أعمال أخرى تفاوتت في قيمتها الفنية كامرأة من زمن الحب، عفاريت السيالة، كناريا وشركاه، والمصراوية آخر أعمالهما معًا على الشاشة.

وارتبط اسمي أسامة وإسماعيل بطريقة، جعلت من تعاونهما معًا علامة على جودة العمل المشترك بينهما، بل وكان بديهيًّا للمشاهد ما إن يرى اسم أسامة على الشاشة، أن ينتظر ختام تترات العمل ليرى توقيع إسماعيل كمخرج في غالب الأحوال.

أثر رحيل أسامة كثيرًا باسماعيل الذى اعتزل نشاطه الفني بعد رحيل رفيق دربه. صحيح أن كلا منهما تعاون مع آخرين فى فترة تواجدهما معًا، لكن للرحيل الأبدي والغياب الدائم معاني قاسية لا تحتمل، ما عجل برحيل إسماعيل لاحقا بأسامة. رحل المؤلف فى صيف 2010 ليتبعه المخرج فى شتاء 2012 ليحفظا عهدا قطعاه على نفسيهما بالتزام الرفيق جوار رفيقه، وفشل حتى الموت في أن ينقضه.

مثلت علاقة أسامة أنور عكاشة بالمخرج إسماعيل عبد الحافظ علاقة إنسانية وفنية فريدة

الحلمية والزمن الرديء

جزء سادس من الليالي المشهورة؟! لماذا؟ ماهو الدافع؟ وكيف سُمح لمن أرادوا فعل ذلك أن يقترفوا جرمهم الذي تحقق بأبشع صورة ممكنة، أساءت لقيمة العمل، وشوهت من بنيته الإبداعية الراسخة الأصيلة. الراجح عندي أن ورثة المرحوم أسامة وهن بناته الثلاث قد أغراهم المال عوزًا أو طمعًا –الله أعلم؟!- بتقديم تنازل، أو منح حق إصدار جزء جديد من العمل لمنتج ما. فقام هذا الأخير-لا سامحه الله- بمحاولة استغلال نجاح وتقدير قطاعات وأجيال من المصريين لأثر فني باق، ويمثل جزءًا عزيزًا من ذاكرتهم الجمعية.

فأسند كتابة العمل إلى ثلاثي فاقد للموهبة والحس الفني والجمالي وكل شيء تقريبا -الكاتبان للسيناريو والمخرج- فقدموا لنا لا مشكورين ولا مأجورين، سيمفونية من الهجص الدرامي المنطوق -إذ ليس في السيمفونية كلمات أعزك الله- كتابًة وإخراجًًا وتمثيلًا، فأطاحوا بذكريات كثيرة وعزيزة لعموم المشاهدين مع أحداث المسلسل الجميل، وأثبتوا لصاحب كل فطرة سوية وذوق سليم أن ما أبدعته أنامل الموهوبين حقًا، لا يمكن بحال أن يضيف إليه أو يعلي من شأنه مجموعة من المرتزقة، ومتسولي النجاح بالسطو على روائع الأخرين.

عزاؤنا دومًا أن أمثال أسامة أنور عكاشة باقون بما قدموا وحاضرون بم سطروا، فمبدع جوهره كابن طنطا وكفر الشيخ والإسكندرية ذكره لا ينقطع وأثره أبدًا راسخ لا يزول.

اقرأ/ي أيضًا:

مسلسل مستر روبوت والعبودية الناعمة
الدراما اللبنانية.. جرائم ترتكب باسم الفن!