23-يونيو-2020

العملة الوطنية للسوريين تمول الحرب عليهم

بلغة الاقتصاد، يتحدد سعر صرف الليرة السورية تجاه العملة الأجنبية (الدولار مثلًا) في السوق السوداء، تبعًا للعلاقة بين الطلب عليها والمعروض منها، فإذا ما عجز المصرف المركزي أو البنوك المحلية المرتبطة به عن توفير تلك العملات للمستوردين السوريين بسعر الصرف الرسمي، فإنه لا يدع من مجال أمامهم (معظمهم مرتبط بالنظام ويعمل لحسابه) سوى تأمين الحصول عليها بسعر أعلى من سعر الصرف الرسمي، ما داموا قادرين على تسعير بضائعهم وفقًا لسعر الصرف الذي اشتروه من السوق.

حين ثار السوريون على حكم آل الأسد لم يضعوا نصب أعينهم التحرر من عبودية نظام الأسد وحسب، بل والتخلص من جميع رموزه السيادية التي تثقل كاهلهم

أما بلغة المستشارة الرئاسية بثينة شعبان، فما تجاوز الدولار حاجز الـ 3000 ليرة في يومين سوى وهم، لن يكون له أي أثر سلبي على حياة المواطن السوري، ما دام سعره في البنك المركزي لا يتجاوز الـ734 ليرة سورية. تجادل بثنية في حقيقة سعر صرف الليرة، كما لو كان أمر تفسير وقراءة الحقائق الاقتصادية وجهة نظر. فأيهما أكثر حقيقية يا هل ترى، سعر صرف الليرة وفقًا لجداول البنك المركزي، الذي لا يملك دولارًا واحدًا للبيع، أم سعر الدولار الذين يضطر التجار لشرائه من السوق السوداء بواقع 3000 ليرة؟

اقرأ/ي أيضًا: الاقتصاد السّوري.. الانهيار المُخيف

حين ثار السوريون على حكم آل الأسد لم يضعوا نصب أعينهم التحرر من عبودية نظام الأسد وحسب، بل والتخلص من جميع رموزه السيادية التي تثقل كاهلهم. فعملية المسارعة لاستبدال علم دولة الأسد بعلم الثورة لم تكن أمرًا نافلًا أو صبيانيًا كما يتوقعه البعض، إنما كان يرمز للحد الفاصل بين من يمارس القتل تحت راية هذا العلم وبين من يقاومه.

وحين تم التخلي عن المناهج المدرسية، التي كانت تصدر بإشراف وزارة الأسد، عمد السوريون للتخلي عنها، على الرغم من معرفتهم المسبقة بحيادية قوانين رياضيات وفيزياء العالم تجاه عنف النظام أو سلمية المظاهرة، وما كل ذلك إلا لعلمهم المسبق أن مرور ثقافة البراميل المتفجرة، ما كان لها أن تجد مكانًا في ضمير السوريين، لولا شعارت الولاء المطلق للقائد، التي تتسرب من أغلفة الكتب.

في التفكير بالتخلص من سلطة آل الأسد النقدية، ومن ذلك الفصام الروحي في أن تلعن روح الأسد الخالد في الوقت التي تضطر لأن تضع صورته المتربعة على بعض القطع النقدية على مقربة من سويداء القلب الذي لا يحبه، كانت قوانين الاقتصاد الصارمة للسوريين بالمرصاد. فلا هم بقادرين على صك عملة نقدية جديدة، ولا هم بقادرين بالتحول عنها إلى عملة نقدية تقوم بمهمتي التبادل اليومي والحفاظ على القيمة. إلا أن ما كان مستحيلًا في الماضي صار اليوم ممكنًا، فبفعل مبادرة السلطات التركية مد السوق السورية في الشمال السوري بعملتها المحلية، صار بإمكان السوريين التخلص من آثار تلك السلطة الرمزية لآل الأسد.

يجادل بعض المحللين الاقتصاديين بأن التحول النقدي نحو الليرة التركية له محاذير نفسية على السوريين في المناطق المحررة، فالنقد كما يقولون: ليس ذا صلة فقط بالتبادل التجاري وحفظ القيمة، بل يمتد ليقيم صلة عميقة في الانتماء الوطني. فالعملة الوطنية ليس سلطة روحية لنظام على معارضيه، بقدر ما هي في الوقت نفسه مجال لتعريف السوري على وطنه الذي ولد فيه بغض النظرعن السلطة التي تحكمه. فالتخلي عن العملة السورية لصالح التركية، لن يخلق ازدواجًا في الانتماء الوطني لمستخدمها، بل سيدمر الانتماء الوطني لبلده الأم.

إلا أن ما غاب عن بال أولئك المحللين أن مطلب التحرر من هذا الرمز الأسدي، كان وما يزال واحدًا من المطالب الشعبية للتخلص من هيمنة النظام. ما الذي يجعل السوريون حريصون على رمزية عملتهم الوطنية، ما دامت في الحقيقة لا تخرج عن كونها واحدة من الأدوات التي تساهم في تمويل آلة الحرب الأسدية عليهم؟ وهل يعقل أن يحرص السوريون الذين يتهددهم النظام في وجودهم اليومي، على أحد رموز السيادة التي تستخدم لإبادتهم؟

تبدو خسارة النظام بهذا التحول النقدي أفدح من أن تقاس، فبتحول ملايين السوريين عن الليرة السورية، يضعف من قدرتها على التأثير في حياتهم، كما يضعف في الوقت نفسه، من قدرته على شراء البضائع من المنطاق التي تنتج لديهم، كالقمح مثلًا. فمن الذي سيقبل من المزارعين أن يتقاضوا نتيجة قمحهم ليرة سورية ما دامت جميع معاملاتهم قد أصبحت بالليرة التركية أو بالدولار؟

الأمر الذي سيعني فرض مزيد من الضغوط المالية على النظام لتأمين شراء تلك المواد الغذائية، بعد أن كان يشتريها بالليرة السورية. إن تخلص السوريين من المزيد من الليرات السورية في سوق أو مناطق النظام سيعني دون شك توليد مزيد من الضغوظ التضخمية، التي ستنتهي بارتفاع المزيد من أسعار السلع على الرغم أنها منتجة محليًا.

في عملية تحول الشمال السوري إلى الليرة التركية، كسب السوريون عدة معارك بوقت واحد

في عملية تحول الشمال السوري إلى الليرة التركية، كسب السوريون عدة معارك بوقت واحد. فلقد مكنهم هذا الفكاك عن الليرة السورية التخلص من هيمنة أحد رموز السيادة لدولة الأسد، التي طالما مارست عليهم ضغوطًا عاطفية كبيرة. كما لا يخفى على أحد أن حصول السوري على عملة نقدية جديدة قادرة على حفظ قيمة عمله الذي بذله لقاء ذلك النقد، سيشكل مكسبًا لديه. فالسوري الذي بيده أموالًا تركية لن يخشى بعد اليوم من ضياع قيمتها الشرائية، إذا ما قرر الاحتفاظ به في البيت أو لوقت الحاجة.

اقرأ/ي أيضًا: الاقتصاد في دولة الأسد.. الإدارة بالهراوة

إذا كانت وظيفة النقد أن يقوم بدور الحافظ على القيمة مع الزمن، فإن دوره بالقيام بوسيلة مضمونة وآمنة لتنفيذ الأنشطة التجارية، لا تقل قيمة عن الأولى. فمع العملة النقدية الجديدة سيشعر السوري، باستقرار أسعار المواد والسلع لفترة طويلة نسبيًا، دون أن يجبره ذلك على استبدالها بالبضائع والسلع التي لا يحتاجها. كما ستشكل بدورها وسيلة فعالة لاستقرار سوق العمل، المولد الرئيس للأجور. إذا كانت هناك من قيمة روحية كبرى لممثل هذا التحول فأنه يندرج في رد السوريين لبضاعة الأسد الفاسدة، التي طالما عاثت في أرواحهم كما جيوبهم فسادًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الاقتصاد في حلب.. مهن الحرب أم مهن القسوة؟

نهوض رامي مخلوف وسقوطه