21-مايو-2020

رامي مخلوف

في ظهوره الثالث، في 17 أيار/مايو الجاري، أبدى رامي مخلوف تحديًّا غير مسبوق لقرارات السلطة الرئاسية التي قضت بطرده من نعيمها الفردوسي، وبدلًا من أن يتقمص دور المظلوم القانع بمصيره البائس، آثر أن يتقمص هذه المرة دور البطل المغوار الذي لا يتردد في الذود عن حمى ملكه المقدس، رغم كل المخاطر الواقفة في الباب كالاعتقال أو الموت.

في ظهوره الثالث، أبدى رامي مخلوف تحديًّا غير مسبوق لقرارات السلطة الرئاسية التي قضت بطرده من نعيمها الفردوسي

وبدلًا من أن يستنجد برئيسه الطيب لإنقاذه من محنته التي صار إليها، قرّر الاستعانة بنفسه الأمّارة بالخير، رافعًا إياها إلى مصافي الذات المتفردة التي لا تدانيها ذات في إنتاج الخير وتدويره. فالعلاقة بين عافية الاقتصاد السوري وعافية شركته الوطنية "سيرياتيل" كما يرى جد بينة، بدليل أنها الشركة السورية الوحيدة التي تدر أرباحًا صافية لخزينة الدولة المفلسة. كما أن العلاقة بين ربح الشركة ونجاحه في إدارته لها عضوية، فبدون إدارته النزيهة ستهوي تلك الشركة الرائدة إلى مصاف الانهيار المحقق، حالها في ذلك حالة جميع شركات الدولة الاقتصادية التي تدار وفقًا لسياسة النهب غير المعقلن، تلك السياسة التي لا تقيم اعتبارًا للفرق بين نهب أصول الشركة التي تدر سمنًا وعسلًا وبين نهب أرباحها ذاتها.

اقرأ/ي أيضًا: رامي مخلوف.. سقوط المحرّم الرابع

بين الظهور الأول والظهور الأخير لمخلوف، ثمة تغير عميق في نبرة الرجل الخطابية الموجهة للذات الرئاسية الأسدية. فما الذي حدا به يا هل ترى لينقل خاطبه، من النبرة الخافتة المستعدة للقبول بكل ما يصدر عن تلك الذات الطيبة، إلى نبرة التحدي العلني لرغبات تلك الذات، التي لم يعد يرى فيها إلا مصدرًا لكل نهب وجشع وتشفٍّ بالخصوم؟

أتاحت النبرة الهادئة في خطاب رامي أن تنجح في أسر جمهوره الموالي، فبدل أن يجد المرء نفسه أمامه رجل جشع ومتسلط، وجد نفسه أمام شخص متواضع قنوع، راض بما قسمه الله له. كما أتاحت له الفرصة لدحض جملة الأكاذيب الرئاسية التي تحاول الجمع بينه وبين الفساد. فالرجل لم يتهرب ولم يسرق قرشا واحدا، وأنى له أن يفعل ذلك وقد وهب نفسه لخدمة السوريين الذي هو منهم. فالسر وراء الحملة الشرسة عليه، ماهي إلا محاولة كيدية للنيل من سمعته، بقصد السطو على ثروته التي جمعها بشرف.

جاءت سياسة التفاوض العلنية، التي تستقوي بالشارع، على عكس ما يتوقعها المغامر رامي مخلوف. فبدلًا من أن تؤدي تلك المناورة المستفزة إلى تخويف الرئيس من مخاطر النزاع العلني مع رامي، أدت إلى زياده شحنة غضبه عليه، مع إصرار متزايد لنزع الشركة من يديه. ففي الوقت التي كان يقدم فيها حلولًا لدفع الخوة الرئاسية المقدرة بـ 234 مليار ليرة، مقابل السماح له بالاستمرار بإدارة الشركة وجني المال، خرجوا عليه بتقليعة رفع مستوى المستحقات الواجب تحويلها للخزينة لتصل إلى ما يقارب الـ 120 % من الأرباح السنوية، الأمر الذي يعني إجباره لدفع الفرق من جيبه الخاص. وفي اللحظة التي كانوا يتفاوضون معه على طبيعة الشركة التي يجب أن تختص بتأمين جميع مستلزمات سرياتيل على نحو حصري، بقصد منعه من التلاعب بأسعار المواد الموردة للشركة، كانوا يشترطون عليه تقديم استقالته من منصب المدير التنفيذي للشركة، إذا كان صادقًا في حرصه على الاقتصاد السوري كما يدعي.

أثبت رامي حتى اللحظة شجاعة استثنائية بتحدي قرارات سلطة ابن عمته القهرية، التي لا تعرف من وسيلة تفاوضية مع خصومها المفترضين سوى التهديد بإزالتهم من الوجود، التي تختصرها العبارة التهديدية الشهيرة" نفّذ.. وإلاّ". فما الذي يجعل رامي مصرًّا على المواجهة مع سلطة مافوية، لا تقيم اعتبارًا لأي شخص، قد يقف عائقًا في طريق تنفيذ رغباتها الكلية في السيطرة والتملك؟ أهي قناعته الراسخة بقدرته للتوصل إلى حل وسط يحفظ له سلطته ومركزه المالي، أم ميله للاستقواء بمليشياته الطائفية التي رعاها ومولها فترة حرب النظام على السوريين.

أثبتت وقائع الحجز الاحتياطي على أموال رامي، المنقولة وغير المنقولة، ضعف حيلة الرجل تجاه السلطة التي كان يأمل التوصل معها إلى حل وسط يسمح له بالاستمرار في إدارة شركته. فلا نبرة الاستعطاف نفعت ولا نبرة التحدي. ولا حتى الاستقواء بورقة التحكم بأرصدة الاستثمارات التي له في الخارج نفعت، رغم حاجة النظام الماسة لها لحل مشكلاته المالية الخانقة. فلقد دللت الوقائع أن النظام أو رأسه كتيم في وجه من يحاول لي ذراعه في ملاعب القوة والسيادة، التي يعتقد أنها حق من حقوقه الطبيعية التي يجب أن لا ينازعه عليها أحد.

أثبتت وقائع الحجز الاحتياطي على أموال رامي، المنقولة وغير المنقولة، ضعف حيلة الرجل تجاه السلطة التي كان يأمل التوصل معها إلى حل وسط يسمح له بالاستمرار في إدارة شركته

أما فكرة استقوائه بالميلشيات التي سبق له أن دعمها أو دعم الحاضنة الشعبية التي جاءت منها، فهو أمر أقرب للخيال منه للواقع. ذلك أن نظام الأسد حرص طيلة وجوده في الحكم على ترسيخ نوع، من الانتماء الطبيعي المغلق، لكل دائرة من الدوائر الاجتماعية التي تدور في فلكه. فجميع شؤون الرئاسة وما يختص بها حكرًا على الرئيس وأعوانه، فإذا ما أختلف الرئيس مع أخيه أو مع أحد من أقربائه فهذا أمر خاص بهم وحدهم، حيث لا حق لبقية الدوائر الإجتماعية الأخرى في التدخل به، خاص إذا كانت تنتمي إلى دوائر أدنى كالطائفة أو الحزب. فالناس الذين يحاول أن يستقوي بهم رامي على الطالع والنازل، ويدعي رغبته بتوزيع فائض ما يملك عليهم، لن يتحركوا لمناصرته قيد أنملة، ذلك أن صراعه مع قريبه بشار ينتمي للحلقة الرئاسية، التي لا يحق لأحد التدخل في نزاعاتها الداخلية المغلقة.

اقرأ/ي أيضًا: حجز النظام السوري لأموال رامي مخلوف.. ما دور روسيا؟

الشيء الغائب في كلام رامي عن المال، هو مصدره. كيف استطاع الحصول عليه؟ وكيف استطاع تثميره على هذه الدرجة العالية من الكفاءة؟ فقبل أن يرث بشار حكم سوريا من والده، لم يكن لرامي حضور في أية عوالم، لا في السياسة ولا في الاقتصاد ناهيك عن المال. فكيف قدر لهذا الرامي المجهول الكفاءات والقدرات، أن ينهض بعبء إدارة ما يقارب الـ 60 % من الاقتصادي السوري.

تكمن ظاهرة نهوض رامي من العدم كما سقوطه في طبيعة النظام الأسدي ذاته. فالنظام في جوهره نوع من أنواع السلطات التي تعود بطبيعتها الحاكمة إلى أزمنة القرون الوسطى، حيث السلطة تؤول للفرد أو الزعيم عن طريق العنف أو الانقلاب، أما أقصى غايات تلك السلطة فتنحصر في تعظيم مصالح زعيمها أو قائدها، كما مصالح عصبته التي تساعده في إخضاع الآخرين بقصد نهبهم.

عندما استلم بشار الأسد السلطة أراد تعظيم منافعه عن طريق الانفتاح على اقتصاد السوق، إلا أنه اصطدم بالمخاوف التي يمكن أن يشكلها الانفتاح على مركزه في الحكم المطلق، فتفتقت قريحته الشيطانية عن التخطيط لذلك الانفتاح بنفسه. فما كان منه إلا أن استدعى رامي مخلوف ليكون واجهة لتنفيذ تلك المشاريع، التي حرص على أن تكون ممولة من رأس مال العائلة الشخصي.

عند تولي رامي إدارة ملف أموال بشار الأسد، عمل دون كل أو ممل على تثميرها على النحو الأمثل، الأمر الذي دفعه لأن يستثمر في جميع القطاعات المربحة وعلى رأسها قطاع الاتصال، الذي رأى فيها بشار بيضة القبان في استثماراته الأخطبوطية. لم يقنع رامي المتعطش لجمع المال بكل السبل الممكنة للاستثمار، بل ذهب لممارسة التشبيح الاقتصادي، على جميع أصحاب الوكالات الأجنبية، وأرغمهم على التخلي عنها لصالحه تحت الوعيد والتهديد. أما بعد أن فرغ من ذلك فقد أتجه لابتزاز رجال الأعمال السوريين في الداخل، عبر إجبارهم على تمويل رأس مال شركته "الشام القابضة". فيما بعد امتدت استثمارات رامي على جميع المناقصات الحكومية الكبيرة، التي لا يقوم بالتنازل عنها إلا بعد أن يضمن تحويل، الخوة المالية المالية المتفق عليها من جيوب من رست عليهم.

كمنت خطيئة مخلوف الرئيسية في رغبته بالتمايز عن الذات الرئاسية التي صنعته، إذ أدت به معاقرته الطويلة للسلطة بالتجرؤ على أن يكون ندًّا لصاحبها الأصلي بشار الأسد

اقرأ/ي أيضًا: رحلة الليرة السورية إلى الانحدار.. الخفايا والمآلات

كمنت خطيئة مخلوف الرئيسية في رغبته بالتمايز عن الذات الرئاسية التي صنعته، إذ أدت به معاقرته الطويلة للسلطة بالتجرؤ على أن يكون ندًّا لصاحبها الأصلي بشار الأسد. فعندما طالبه الأسد بتدبر مبلغ الثلاثة مليارات التي يدين بها للروس، مارس رامي كل أنواع التظليل والخداع كي لا يدفع، لاعتقاده أن بقدرته التمييز بين ما يخصه وما يخص الأسد الذي لم يعد له في ذمته شيئًا. لقد أثبت مخلوف جهلًا عميقًا في طبيعة السلطة الأسدية التي ينتمي إليها، تلك السلطة التي تتعامل مع جميع منهم في خدمته كخدم ليس إلا، وأن أي محاولة من العاملين لديها، بالتمايز أو المجاهرة بالندية، محاولة محكوم عليها بالفشل مسبقا. فالسلطة الأسدية سلطة مصمتة لا تقبل القسمة إلا على نفسها، فسوريا في عرفها ليست وطنًا لجميع السوريين بل ملكًا شخصيًا لها، يجوز على أفرادها من يجوز على الأشياء، من تصرف وتمتع ومن التخلص منها وقت الحاجة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وثائق بنما.. ساسة الفساد المالي حول العالم

20 معلومة لا بد من معرفتها عن سوريا