14-سبتمبر-2017

رواندا و3 دول أفريقية أخرى على الأقل حققن تطورًا سياسيًا واقتصاديًا هامًا (فيل مور/ أ.ف.ب)

ذات يومٍ وصفتها مجلة "ذا إيكونوميست" بأنها قارة "بلا أمل"، واعتبرها آخرون قارة "ملعونة". إنها قارة إفريقيا التي لطالما ارتبطت في مخيالنا بالفقر والأوبئة والدكتاتوريات والفساد اللامحدود والحروب الأهلية المستمرة، فيما يشبه عجزًا تامًا لهذه القطعة من الكرة الأرضية، عن اللحاق بركب الحضارة البشرية، حتى باتت بلدان إفريقيا، سيما منها دول جنوب الصحراء، نموذجًا مثاليًا للتخلف، لا تكف عن تصدير أبنائها الجائعين المقهورين نحو الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.

بعد أن كانت توصف بأنها قارة بلا أمل، يبدو أن هذه الصورة النمطية عن إفريقيا في طريقها للتغير على يد دول تمضي قدمًا نحو التطوير

لكن يبدو أن هذه النظرة البائسة عن القارة، باتت على وشك التغير، بعد أن أظهرت دول إفريقية كانت غابرة، قدرتها الحثيثة، بالدليل الملموس، على المضي قدمًا نحو التنمية والديمقراطية، خلال العقد الأخير، بشكل يتفوق على كثير من البلدان العربية.

1. رواندا.. سلْم وتنمية بعد حرب أهلية

لعل تجربة رواندا تمثل أفضل دليل للقدرة الكامنة في الشعوب على تجاوز العقبات نحو التنمية والتطوير. هذا البلد الذي شهد إحدى أسرع وأبشع الإبادات الجماعية في تاريخ العالم وأسوأ الحروب الأهلية خلال القرنين الماضيين، أصبح اليوم نموذجًا يحتذى به في السلم والتصالح المجتمعي.

اقرأ/ي أيضًا: هوية إفريقيا.. من المسرح المفتوح إلى وهم الاستقلال

في عام 1959، أطاحت قبيلة الهوتو التي تمثل أغلبية السكان في رواندا بحوالي %85، بالحكم الملكي الذي كان في يد أقلية التوتسي، فيما يعرف بـ "ثورة فلاحي الهوتو"، وفرّ آلاف التوتسي إلى أوغاندا والبلدان المجاورة، ليكونوا هناك ميليشيات عسكرية تعرف باسم "الجبهة الوطنية الرواندية"، وبدؤوا يشتبكون مع الجيش الرواندي من الهوتو، حتى توصلت القبيلتان إلى اتفاق سلام سنة 1993، لكن في الحقيقة كان ذلك مقدمة للأسوأ.

ليلة السادس من نيسان/أبريل 1994، سقطت طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي آنذاك جوفينال هابياريمانا، ونظيره البوروندي سيبريان نتارياميرا، على إثر هجوم صاروخي، وقتل جميع من كانوا على متن الطائرة، لتحمل قبيلة الهوتو حينئذ جماعة "الجبهة الوطنية الرواندية" مسؤولية إسقاطها، وقررت الانتقام من التوتسي جميعهم والمتعاطفين معهم، ليهلك أكثر من مليون رواندي معظمهم من التوتسي خلال 100 يوم فقط، قتلوا بالرصاص والمناجل والفؤوس، وتكومت الجثث مكدسة فوق بعضها البعض في ساحات القرى وشوارع المدن.

لكن بعد تدخل المجتمع الدولي متأخرًا، توقف حمام الدم، لتبدأ الحكومة الرواندية سنة 1996 في محاكمة المسؤولين عن الإبادة الجماعية، ونفذت قانون العدالة التشاركية المعروف باسم "غاتشاتشا"، الذي يسمح بتخفيف الأحكام القضائية إذا ما أعلن الشخص المتورط توبته والتمس التصالح مع المجتمع، مثلما سنّت قوانين متشددة تجرم أدنى مظاهر التمييز العرقي، بما في ذلك التلفظ بكلمة "الهوتو أو التوتسي".

ومنذ ذلك الحين شرعت مكونات المجتمع الرواندي في طي صفحة الصراع، وتدشين صفحة جديدة من التصالح الاجتماعي والتعاون، حتى "صار بعض النساء من الهوتو والتوتسي يتبادلون الأبناء، ليتربوا في نوع من التعايش والتصالح"، كما قالت مرة مراسلة الحرب دي جيوفاني، متحدثةً في "TED" عن التغيير الكبير الذي أنجزته رواندا.

اليوم في رواندا أكثر من %50 من البرلمانيين هم نساء، واعتبرها البنك الدولي في تقرير له "واحدة من الدول الأفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي"، إذ سجل اقتصادها النمو الأكبر على مستوى العالم منذ عام 2005 بمتوسط بلغ %7.5 ، وصنفها كأفضل دولة في شرق إفريقيا للتجارة في 2016.

تمثل النساء أكثر من 50% من أعضاء البرلمان برواندا التي سجلت أعلى معدل نمو اقتصادي في العالم منذ 2005 بمتوسط بلغ 7.5%

إلى جانب ذلك عرفت رواندا تحسنًا ملفتًا على مستوى الصحة والتعليم جعلها تحظى بإشادة دولية، حيث بلغ عدد الملتحقين بالمدارس الابتدائية %93 منذ سنة 2013، بعدما كانت النسبة لا تتعدى %50 خلال التسعينات، فيما انخفض مستوى وفيات الأطفال من 2030 طفل عام 1998 إلى 55 طفل فقط عام 2012، طبقًا لمعلومات البنك الدولي.

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن إفريقيا

وتتميز عاصمة رواندا "كيغالي"، بنظافتها ورونقها الجميل، بشكل يضاهي العواصم الأوروبية، وقد سبق أن صنفتها الأمم المتحدة، كأجمل مدن إفريقيا سنة 2015.

2. بوتسوانا.. الماس والشفافية يصنعان التنمية

بالكاد يتخطى عدد سكان بوتسوانا المليوني نسمة، يقطنون في مساحة بحجم فرنسا، وكانت فيما سبق محمية بريطانية قبل أن تحصل على استقلالها سنة 1966. لم تعرف بوتسوانا حروبًا أهلية أو انقلابات عسكرية في تاريخها الحديث، لكنها كانت مرتعًا خصبًا للفقر ووباء الإيدز، قبل أن تصبح تجربتها اليوم واحدة من أنجح قصص التنمية في إفريقيا.

تحظى بوتسوانا بطبيعة خلابة وبيئة حيوانية غنية، حيث تُسحر العين بمراعي السافانا المنبسطة، التي تؤوي تجمعات الأفيال الأفريقية، والكثير من الحيوانات والطيور النادرة، ما جعلها إحدى الوجهات السياحية المفضلة في العالم لمحبي الطبيعة النقية، بحيث تستقبل سنويًا أعداد من السياح أكبر من عدد سكانها، بحوالي 2.7 مليون زائر سنويًا، بحسب وزير البيئة والحياة البرية والسياحة. ويساهم قطاع السياحة في بوتسوانا بحوالي %5 من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

مراعي السافانا في بتوسانا (Getty)

أدركت بوتسوانا أهمية البيئة الطبيعية البكر التي تملكها على أرضها، ومن ثمّ سعت إلى الحفاظ عليها ورعايتها، فمنذ عام 2002 تبنت استراتيجية بيئية تهدف إلى صيانة الموارد الطبيعية من التلوث والتخريب، وإلى حماية الحياة البرية من الصيد، وهو ما عزّز صورتها كدولة صديقة للبيئة عالميًا.

أيضا تزخر بوتسوانا بالمعادن وهي أحد مراكز تجارة الماس في المعمورة، إذ تحولت عاصمتها التي كانت منسية، غابورون، من مدينة راكدة إلى مركز دولي لتجارة الماس، تحفل بالمباني الشاهقة والفنادق المرفهة والمتاجر، يقصدها تجار الماس من كل أنحاء القارات، هناك يجدون فرص شراء المجوهرات النفيسة بقصد بيعها في بلدانهم بسعر أعلى، مما حول سوق الماس إلى القطاع الأول في اقتصاد بوتسوانا.

فقط من خلال ثروة الطبيعة والماس، استطاعت حكومة بوتسوانا رفع مستوى العيش لدى شعبها بشكل يثير الدهشة، إذ انتقل رقم إنتاجها الإجمالي المحلي من أقل من مليار دولار سنة 1980، إلى أكثر من 17 مليار دولار سنة 2015، كما يورد البنك الدولي، ما حولها في ظرف قصير من واحدة من أفقر بلدان العالم، إلى البلدان ذات الدخل المتوسط، بفضل حسن تدبير حكومتها وشفافيتها، إذ تصنف بوتسوانا أحد البلدان الأقل فسادًا على المستوى الإفريقي، بل وأقل فسادًا من بعض بلدان أوروبا، مثلما توضح منظمة الشفافية الدولية.

3. الغابون.. تتفوق على مصر والمغرب في التنمية البشرية

بلد إفريقي آخر يقع في عمق القارة السمراء، يحظى بطبيعة ساحرة، تحده الكاميرون شمالًا والكونغو جنوبًا، ولا يتجاوز عدد ساكنته المليون ونصف نسمة، غير أنه استطاع أن يحقق له مكانة بارزة سياسيًا واقتصاديًا.

حصلت الغابون على استقلالها عن فرنسا سنة 1960، إلا أنها سرعان ما سقطت في الحكم الدكتاتوري، وبحلول التسعينات من القرن الماضي أدخلت نظام التعددية الحزبية، بعدما وضعت دستورًا جديدًا للبلاد أكثر ديموقراطية، وأنشأت هيئة تسهر على ضمان الحقوق السياسية والفردية للغابونيين، تعرف بـ"المجلس الوطني للديمقراطية"، كما أسست مجلسًا استشاريًا يساعد الحكومة في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.

ومن حينها تشهد الغابون تحسنًا مطردًا في التنمية، حيث انتقل ناتجها الإجمالي المحلي من أقل من مليار دولار سنة 1970، إلى ما يقارب 15 مليار دولار سنة 2016، وارتفع الدخل الفردي للمواطن الغابوني ليصل أعلى بأربع مرات من متوسط منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وذلك بفضل صادرات النفط وعائدات السياح، الذين يقصدون الغابون  لتمتع بالتجوال في حقول السافانا ومشاهدة الحيوانات البرية.

التحسن في الديمقراطية والحقوق والحريات، دفع الغابون إلى التحسن في التنمية الاقتصادية لتتفوق على دول كمصر والمغرب وأندونيسيا

وتحتل الغابون الرتبة 109 في سلم التنمية البشرية ضمن فئة الدول المتوسطة التنمية، متفوقة بذلك على الكثير من البلدان الإسلامية الكبرى مثل مصر (111) والمغرب (123) وأندونيسيا (113)، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة الخاص بسنة 2016، الذي يقيس مستوى الصحة والتعليم والدخل الفردي بالإضافة إلى مؤشر المساواة بين الجنسين.

اقرأ/ي أيضًا: تونس والسعي وراء إفريقيا "المنسية"

تمثل إذن تجارب هذه البلدان الثلاث، رواندا وبوتسوانا والغابون، بادرة أمل في انتشال القارة من أتون الفقر والدكتاتورية، كما أنها تخبرنا بإعادة النظر في تصوراتنا الذهنية لمجتمعات بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، المقترنة عادة بالدونية والهمجية، بينما بعضها يتفوق في الواقع على العديد من البلدان العربية في التنمية والديمقراطية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أجمل 6 أعياد شعبية في إفريقيا

الأدب الأفريقي ومسألة اللغة