27-يوليو-2017

عزت القمحاوي في المقهى

في عام 2000، كتب المؤلف المصري أسامة غازي قصة المسلسل التلفزيوني الذي ذاع صيته آنذاك "أوبرا عايدة" عن قصة محام شهير يدعى سيد عبد الحفيظ، أو "سيد أوبرا"؛ وأوبرا محام بارع وشديد الثقافة، ينتصر في العديد من القضايا التي توكّل له، ورغم تقدمّه في العمر إلا إنه يظل أعزب، باعتباره أسير قصة حبه القديمة مع فتاة أحلامه منى التي يبقى في انتظارها حتى بعد مرور ما يقرب من 20 عامًا على أمل العودة.

حصل الروائي المصري عزت القمحاوي على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 2012 عن روايته "بيت الديب" 

لكن الصورة الأشمل في تحليل شخصية ذلك المحامي "أوبرا"، هو حبّه الشديد عمومًا لكل الأشياء التي يشعر معها بأنه لا يزال ذلك الطفل الصغير الذي لم يكبر بعد سواء كان واعيًا أم لا؛ فهو إلى جانب عزوفه عن الزواج لا يزال يعيش في منزل متواضع يحمل ذكريات أبيه بالرغم من امتلاكه لثروة كبيرة. لا يترك أهل منطقته الفقراء ولا أصدقاءه يحتاجون لأي مساعدة دون تقديمها.

اقرأ/ي أيضًا: عن رضوى عاشور وغرناطة وسيناء التي أعرفها

من هنا أيضًا تبدأ الرواية الجديدة التي أصدرها الروائي المصري عزت القمحاوي (56 عامًا) تحت عنوان "يكفي أننا معًا" (الدار المصرية اللبنانية، 2017)، التي تعتبر العمل الـ13 في مسيرة الرجل الأدبية الموزّعة ما بين رواية وقصة قصيرة ونصوص حرة، وحصد من خلال روايته السابقة "بيت الديب" جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 2012. وتُرجم بعضها إلى الإنجليزية والإيطالية.

درس عزت القمحاوي الصحافة والإعلام، وتخرج في جامعة القاهرة. جمال منصور بطل القصة الجديدة يحمل بعض صفات "سيد أوبرا" مع اختلافات عديدة بالإضافة إلى أن اختلاف المكان والزمان يضعه في سياق بعيد نوعًا ما عن سابقه، ويجعل للرواية الجديدة تفردّها واختلافها المميز.

كان يصعب على بطلنا الجديد جمال عدم الدخول في تجربة نتيجة تحمّل عبء أسرته، كان يشتاق للحب الذي هرب منه قديمًا مثل "أوبرا"، يشتاق للحب الذي قابله مع امرأة وحيدة سابقًا "امرأة واحدة كان يتذكرها بين الحين والآخر، فيفعل أي شيء ليطرد الذكرى، اسمها قمر، كانت تتمنى البقاء بجواره للأبد، امرأة مستقلة، حنون كأم، جرّبت حظها مع الزواج مرة واحدة وكرست حياتها لطفليها، وكانت على استعداد ليكون هو ثالثهما، هي الوحيدة التي أكمل ليلة في حضنها، ونام يخرخر مغتبطًا كقطٍ سعيد، وفي الصباح تحمما معًا، وعندما لفتّه بالمنشفة ووقفت في مواجهته، رأى الحب ينمو في عينيها فهرب". لكنه بخلاف "أوبرا" لم يكن يملك الشغف والفرصة آنذاك للدخول في علاقة نظرًا لأن شعوره بالواجب تجاه أسرته ربما يطغى رغمًا عنه على مشاعر حبه.

جمال منصور بطل "يكفي أننا معًا" يحمل بعض صفات البطل التلفزيوني "سيد أوبرا"

يختلف جمال منصور بطل القصة الجديدة أيضًا نوعًا ما مع أبناء جيله من زملائه المحامين، بل إنه في رأي الكاتب "ينتمي إلى جيلٍ انقرض مع تدهور تقاليد مهنة المحاماة؛ فهو يقرأ كل ما تقع عليه يداه من كتب القانون إلى الفكر والروايات والنقد الأدبي والبلاغة، إلى جانب أنه يعرف جيدًا أن اللغة خيالية، لكنها تزعم مطابقة الواقع، ولأن القوانين مصنوعة من اللغة، يعتبرها خيالية أيضًا، ولذا فقد آمن بأن الفيصل ليس القانون وليست الوقائع، بل براعة المحامي الذي يعرف أن يحكي حكاية موكلته أمام القاعة، وكيف يستطيع إعادة الواقع على هواه في مذكرة مقنعة".

اقرأ/ي أيضًا: "مشاءة" سمر يزبك

عندما تعجبه جملة يقوم ويؤديها تمثيلًا وسط صمت مثالي لجمهور يوجد في خياله، ويمتلك قناعة تامة بأنه لا يوجد أحد يستطيع حمل بطيختين في يد واحدة. "وما جعل الله للمرء من قلبين في جوفه"، كقالب ثابت يستخدمه في أغلب مرافعاته لأنه لاحظ أن "الناس ترتبك من مراوغات المجاز، ولذلك تتلقف القوالب الجاهزة وتتشبث بها". كما أنه لا أحد يمكنه أن يركّز انتباهه أو حياته بين العديد من الأمور المختلفة، بالتالي فهو مع ثقافته الشديدة، اختار أن يحدد طريقه بوضوح منذ اللحظة الأولى، بعد موت والديه، وفهم جيدًا إنه أصبح المسئول الأمور الأول عن أخوته فعزف عن الزواج، ودرّب نفسه على الدخول في علاقات سريعة يحكمها الجنس ليس إلّا مع بعض من موكّلاته الكثيرات، غير ملتزم بأعباء ربما تثقله أو لا يجد لها وقتًا في رأيه كالحب والزواج. وبالرغم من أنه متخصص في قضايا الخلع والطلاق بشكلٍ كبير إلا إن عدم حبه الداخلي للأمر يظهر منذ اللحظة الأولى.

كان حب سيد أوبرا للفتاة الصغيرة عايدة، في المسلسل، على ما يبدو تصالحًا مع الحياة ذاتها، ومحاولة جديدة لمجاراتها وتعويض ما ضاع في الانتظار، مقابل حب الفتاة الصغيرة النابع من نضج وقوة "أوبرا" الذي يمثّل الحماية والحنان لفتاة لم يعد لها سند أو قوة.

بالتوازي مع "أوبرا عايدة" يقف في الجانب الآخر من القصة الجديدة تلك الفتاة خديجة، التي تراقب جمال المحامي عن بعد وتتبع خطاه من محكمة لأخرى، منذ اللحظة التي شاهدته فيها، هو أيضًا يجسّد لها الأبوة والنضج والهيبة خصوصًا مع موت والدها وفشل علاقة زواج أختها الكبرى التي قامت على حب أيضًا لشخصين تقريبًا في نفس السن، اختارت خديجة التي لم تتجاوز الـ23 عامًا أن تقترب أكثر من الستيني المخضرم برسالتها للماجستير وحديثها عن فكرة العدالة وعلاقتها بالعمارة في المحاكم وكيف يعكس بنيان المحكمة حالة المجتمع وحالة القضاء فيه، بالرغم من رفض صديقتها "سوزي" للأمر، ونصيحتها التي تعكس جانبًا آخر للقصة لم يلتفت له أحد حين قالت لها: "إنتِ لستِ مغرمة به، بل تريدين تذوق شيء شاهدتيه يقع على الآخرين، ولم تتذوقيه أبدًا: الأذى".

ربما في سياق آخر كانت تريد تلك الفتاة شيء من قسوة الحياة التي لم تقابلها في حنية والديها ومالهم الوفير. لكن الأكيد إنه سواء جمال أو أوبرا فإن اهتمامهم الحديث بمظهرهم يعود لهذا الحب الجديد.

 يبدأ فقدان الإحساس بالزمن، والحرية من خلال الغرق في الزحام، الذي يبدو مهربًا من العيون 

ربما أيضًا يخاف كلاهما من وطأة الزمن من البداية، كما يريد من صاحبه العودة بالزمن لأسباب تخصه هو دون غيره بدافع الحب، بالتالي فهما في علاقة مصلحة مستترة بإتفاق خفي لا يريدان إظهاره؛ هو يستشعر حلاوة الأيام التي فقدها دون إرادة، وهي تدخل في علاقة ناضجة أكثر من رجل جّرب الحياة واختبرها، وهو ما يؤكده القمحاوي في أكثر من موضع، بالحديث عن فقدان الإحساس بالزمن، والحرية التي يشعران بها عند دخولهما في الزحام، ربما ذلك للفكاك من كل شيء والهرب من العيون والأسئلة التي تصاحب تلك العلاقات ذات فارق السن الكبير بين طرفيها. وربما لذلك لاقت فكرة خديجة بالسفر إلى روما قبولًا وتنفيذًا وقتيًا باعتبارها حلًا مثاليًا لخطوة جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: مها حسن: "بلغني أيتها الحرب السعيدة"

تطور العلاقة الذي حدث سريعًا عن طريق رسائل "الواتساب" زاد أكثر عندما ترك جمال كل شيء للسفر مع الفتاة الصغيرة، على طريقة "صالحت بيك أيامي، سامحت بيك الزمن". يترك بطلنا لنفسه العنان لفرصة حقيقة للحياة كما ينبغي. حيث لم يكن فى حسبانه إشراقة العينين طالبة الدكتوراه خديجة البابي.

عندما طلبت منه إنجاب طفل شعر بالمفاجأة والتردد واعتبر أن هذا هو الحب حيث إنه "للمرة الأولى تطلب منه امرأة ذلك، رغم فوات الأوان، لم يكن الرجل يفكر في الإنجاب سابقًا، وتعايش مع أن إخوته هم أطفاله، لكن بعد ظهورها في حياته بدأ يفكر في مستقبله، ويقول لنفسه إن هاجس الزواج الذي يعبر تفكيره سريعًا مثل نسمة صيف، بين وقت وآخر، "تظهر فيه أرملة أو مطلقة في مثل سنّه، يتزوج بلا مراسم، يأتنس أحدهما بالآخر، ويتذوقان الرحيق الأخير، قبل أن يتفرغا لتبادل تدليك جسديهما بالمراهم في الشيخوخة" تبدّل إلى حبه لفتاة صغيرة تبدأ حياتها به.

وإجمالًا كان الرجل يعلم فرق السن بينهما لكنه كقارئ روايات محترف، يعرف أن "ألق الحب لا ينبع إلّا من استحالته، وأن كل القصص التي قاومت النسيان كانت عن الحب غير المتحقق". فهو الآن أصبح يهتم بمظهره، يقضي قبل كل لقاء وقت أمام المرآة يطالع وجهًا متأسيًا (لو كانت هناك جراحة تقص الثلاثين عامًا الزيادة!) وأصبح فجأة يريد الحياة، كان يحس معها بسعادة لم يقابلها قبل ذلك "أحس أنه جزء من جسد شاب عملاق، وتذكر بشجن ما فاته أن يعيشه في الجامعة". فهي كما يقول عليها "جميلة إلى الحد الأقصى"، وهذا مكسب كبير، بينما جاء مرضه كصفعة تلقاها متألما حيث زادت من صعوبة تواصلهم تحديدًا مع عدم تحسن صحته بعد العلاج حتى، وإظهار فارق السن الذي يستجهلانه لو جاز التعبير، فشعرت وقتها أن صديقتها القديمة سوزي كانت محقة حين قالت "إن الزواج من رجل مسّن سيجعلك تكبرين سنة كل يوم، حتى تصبحي في عمر من ترتبطين به". فعلى ما يبدو أن مشهد النهاية الذي يحمل بوادر فراقهم عند العودة للقاهرة، برغم من إنه كان متوقعًا إلا إنه يشهد بالكثير، يجهزان لمغادرتهما من الفندق الذي شهد ولعهم العاطفي والجنسي دون أن يتنفسا بكلمة مثل "غريبين اجتمعا في نُزُل العابرين".  فهو لا يزال حزينًا بسبب قسوة الزمن رغمًا عنه، وكان يتساءل؛ هل يداهمنا الحزن من الخارج أم ينبع من أرواحنا ويفيض على الأشياء؟

ألق الحب لا ينبع إلّا من استحالته، وأن كل القصص التي قاومت النسيان كانت عن الحب غير المتحقق

اقرأ/ي أيضًا: أرنداتي روي.. مجتمع المُهمشين درس في السعادة

توقفت قصة "سيد أوبرا" عند وقوعه في حب "عايده" دون أن ندري إن كانت تطورت لعلاقة زوجية أم لا، لكن عزت القمحاوي اختار طريقًا أكثر إرهاقًا ومسؤولية، حاول الإجابة بشكلٍ خفي عن مصير علاقة جمعها حبًّا حقيقيًا منذ اللحظة الأولى، هل يقف الزمن وفرق العمر أمام حبّنا رغمًا عنّا؟ فخديجة التي أعجبت بشاب صغير مثلها أثناء مرض "جمال" لم تحب ذلك في قرارة نفسها، كما لم يحب جمال نفسه غيرته الزائده على فتاة منحته نفسها صادقة، لكن على ما يبدو ثمة أناس قليلون وحدهم من يستطيعون الهروب بقدر قليل من الحكمة والتحايل الذي ربما يفشل أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جعفر مدرس صادقي.. كوابيس نهر "زاينده"

باتريك زوسكيند.. قصة مشّاء