20-يوليو-2017

الكاتبة السورية سمر يزبك

ما إن تبدأ بقراءة رواية "المشاءة" (دار الآداب، 2017) للكاتبة السورية سمر يزبك التي تروي حكاية ريما سالم المحمودي، وتخبرنا أنها غريبة نوعًا ما، فهي "ولدت ورأسها بين قدميها، فما إن تقف حتى تنتصب للأمام وتبدأ بالمشي دون توقف، وجل أحلامها هو فقدان الوعي وهي تمشي". وما زاد من غرابة طفلتنا الساردة هو عدم رغبتها بالتواصل مع الآخرين عبر تحريك عضلة اللسان، على الرغم من إمكانية النطق، ما جعل منها طفلة مقيدة بحبل من معصمها، مربوط بالآخرين.

تقوم رواية "المشاءة" على حكاية فتاة مصابة بمس غريب، فما أن تنتصب على قدميها حتى تمشي بلا توقف

هذا القيد خلق لديها عالمًا مليئًا بالرسوم والكلمات والألوان، حتى أن التعبير عن المشاعر لديها يأخذ أشكالًا، فالخوف دائري والجوع مثلث، تقول: "إن الخوف دائري لا بداية له أو نهاية، يبني أفخاخًا لك في جسدك ويصير جزءًا من أعضائك في الأحشاء. أما الجوع فهو مثلث ينتهي مع نهاية فعل الأكل ومن الصعب تذكره لاحقًا، أما الخوف يبقى بداخلك مثل دائرة تصل بين القدمين وعضلة القلب ومركزها الساقان وتنتهي أسفل البطن، وبالنسبة إلي كانت تتسرب على شكل سائل حار اسمه البول".

اقرأ/ي أيضًا: كُتَّاب السلطان

هذا الخوف الذي اختبرته المشاءة حين توقفت حافلتها الصغيرة، "الباص الأبيض الصغير"، أمام حاجز من حواجز النظام المقامة في قلب دمشق، لتتحرّر من قيدها وتبدأ بالمشي، دون أن تتوقف إلا بتوقف لهاث أمها وموتها، وإصابته هي في كتفها، لتخرج دون رجعة من عالمها البسيط وتنتقل إلى عالم القصص عن المعتقلات والمعتقلين، وعن الصراخ ورائحة الدم وتفسخ الأجساد، وعن الغياب.. ليخرجها أخوها الوحيد سعد من المشتشفى العسكري، وينقلها معه إلى حيث يقيم ويقاتل، في بلدة زملكا، لتصف لنا الراوية مكانها الجديد "الآن أفهم أنه هنا يموت الناس وهناك يسمعون الصوت الذي يموت به الناس"، لتنتقل بعدها إلى مدينة دوما، حيث يختفي الأخ مع الذين اختنقوا بالروائح السامة التي كانت تطلقها الطائرات المحلقة في السماء. وكان ممكن أن تموت الراوية مع النساء اللواتي تغلغلت الغازات في ثيابهن، وكان لا بد من خلعها، لكن الرجال قالوا إنه حرام أن تنكشف النساء عليهم، وهكذا ستبقى ريما مع صديق أخيها الفتى المقاتل حسن.

يأخذ المكان الحيّز الأكبر والأعم في رواية "المشاءة"، حيث تسميه "الكواكب السرية"، هذه الكواكب تبدأ بالسرير حيث كانت تحشر نفسها بين الصندوق وبين ما تبقى من مساحة مقابلة للجدار، وهناك يبدأ عالمها بالرسم والألوان والأشكال. والكوكب الثاني هو غرفة مكتبة المدرسة الذي تحول إلى مسرح، وبطلته طفلة تتعلم الكتابة والقراءة على يد أمينة المكتبة الست سعاد، وهناك بنت صداقة متينة مع كتاب "الأمير الصغير".

تتماهى شخصية رواية "المشاءة" مع الثورة السورية وكأنها تمثيل لها

عند خروجها من بيتها إلى زيارة الست سعاد، عبر "الباص الأبيض الصغير"، لم تكن تلك رحلتها الأخيرة دون عودة فقط، بل كانت رحلة لاختفاء للأم والأخ ولكواكبها السرية الجميلة، لتبقينا معها ومع كوكبها الإجباري، وهو القبو حيث قيّدت بإطار النافذة، جائعة ومحاصرة من العدم، ولا شيء حولها سوى تحليق الطائرات والغبار والدمار. عاطفة على انتظار عودة الشاطر حسن، الذي ربما تحول أيضًا إلى كوكب من الطين "يكفي خدش بسيط في أجسادنا لنتحول إلى غبار".

اقرأ/ي أيضًا: كيف جئتُ إلى الرواية؟

تتماهى المشاءة مع الثورة السورية، فما إن انتصبت وبدأت بالانطلاق لتصل إلى الحرية حتى قيدت، ربما بالعادات والتقاليد، من ممارسات الكتائب الإسلامية، من الحواجز والاعتقالات والتعذيب، وضربت بالقذائف والغازات السامة، واختفى الكثير من أحبائها، لكن الكاتبة كانت تؤكد في الرواية أن حكايات الثورة لم تنته، وحكاية حسن المقاتل لا تزال في البداية.

استطاعت سمر يزبك، عن طريق السرد الطفولي المتداخل في رواية "المشاءة"، أن تقدم دلالات تؤشر إلى أحداث الثورة السورية، ما جعلنا ليس فقط شهود عيان على حصار الفتاة وآخرين مثلها، بل مضت بأرواحنا إلى حصار من الضيق والألم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إياد شاهين الذي صفعنا ومات

الشعر روح الرفض في زمن الاستبداد