25-مايو-2017

جعفر مدرس صادقي

يذهب بنّا الإيراني جعفر مدرس صادقي، عبر عوالم روايته "المستنقع" (ترجمة غسان حمدان، منشورات الجمل 2015) في رحلة إلى ضفاف نهر "زاينده" في مدينة أصفهان الإيرانية، ليكشف لنا فصلًا من فصول الحياة البائسة التي يعيشها المجتمع الإيراني، رابطاً إياها مع مصير شخصياته الذين لم يكف عن قتلهم أثناء عملية السرد التي يرافقها النهر منذ أول كلمة يفتتح فيها النص حتى النهاية.

في "المستنقع"، تلتقي متناقضات الحياة داخل المجتمع الإيراني بين أصفهان وطهران

الرواية التي نشرت باللغة الفارسية عام 1982، جاءت من النوع القصير، كون صادقي اعتمد في كتابتها على فصول قصيرة جدًا، ورغم أنها لم تتجاوز مئة صفحة، جمعت في متنها السردي متناقضات الحياة داخل المجتمع الإيراني بين أصفهان وطهران، ليلاحقها القارئ من خلال بطل الرواية الذي تحول إلى راوٍ للحكاية منذ اللحظة التي كان والده يسبح في النهر مع مجموعة من الشبان.

اقرأ/ي أيضًا: عباس كيارستمي.. ريح الشعر وأوراق السينما

يقول الراوي في مطلع الفصل الأول من النص: "كنا نسبح في نهر (زاينده) بأصفهان مع أبي وعدة شبان لا أذكر كم كان عددهم بالضبط، ولا أعرف إلا واحدًا منهم فقط – معلم السنة الرابعة الابتدائية كُلتشين. كانت السماء صافية ليلًا وقمر الليلة الرابعة عشر يشع. كنا نحن فقط في الماء ولم يكن هناك أحد غيرنا لا خارج الماء ولا داخله".

يقدم لنا صادقي على لسان الراوي صورًا مختلفة عن المجتمع الإيراني بمختلف فئاته. يبدأها بوالدة تؤنب والده دائمًا على ذهابه للنهر من أجل السباحة، مذكرًة إياه بأنه من أهم الخياطين في المدينة، وأن مكانته الاجتماعية لا تسمح له بالسباحة في النهر، ومغافلة الأب لها بحجة الاستحمام صباحًا حيثُ يقضيها سباحًة في نهر "زاينده". إذ أن القارئ سيكون أمام طبيعة الحياة المنزلية البسيطة في تلك الفترة عندما كتبت الراوية، بعد أعوامٍ قليلة من وصول قادة ما يعرف باسم "الثورة الإسلامية الإيرانية" إلى سدة الحكم، والبدء التدريجي لتغيير ملامح الحياة الإيرانية حينها إلى أن اختفت في يومنا الحالي.

من خلال النهر يصارع الراوي كوابيس أحلامه التي تأتي إليه بوالده المتوفي من "الغم" على زوجته المتوفاة قبله غمًا. هذا الرحيل الذي جعل من الابن/ الراوي حاقدًا على الأب، فعندما علم بوفاة والده طلب إجازة ليومين من صاحب المكتبة التي يعمل بها دون أن يخبره، وخلال مراسم العزاء تحرك استثيرت عاطفته عندما شاهد ابنة عمته كبرت ليتزوجها قبل مضي أقل مع عام على وفاة والده، لكنه لاحقًا يكتشف أنه أحبها بقصد الامتلاك فقط، ووقع في نهاية المطاف ضحية خدعة من والديها حتى يحصلون على محل والده في أصفهان بعد أن توفي بسعر رخيص.

يجتمع في "مستنقع" صادقي الكثير من المتناقضات التي تهيمن على المتن السردي الماضي/ الحاضر، عالميّ الواقع/ الأحلام، الحب/ البغض، الموت/ الحياة، صراع الذاكرة/ النسيان. تسيطر جميع هذه المتناقضات على الراوي الذي لا يجد مفرًا للهروب منها. حتى أنه عندما قرر زيارة معلمه " كُلتشين" بعد أن عاد للاستقرار في أصفهان لبعض الوقت بداعي الزواج، قرر أن يقتله غرقًا على لسان أحد الأساتذة، رغم أن "كُلتشين" كان سباحًا ماهرًا معروف عنه هوايته اكتشاف السباحة في أماكن جديدة.

في رواية جعفر مدرس صادقي، يتحول نهر "زاينده" إلى "مستنقع" كناية عن الحياة في إيران

إذًا.. لماذا نهر "زاينده"؟ في البحث عن معنى كلمة "زاينده" الفارسية نقرأ أن ما يقابلها بالعربية هو: المولود، أو الخصب. كما أن هذا النهر يعتبر رمزًا للتفاؤل، على عكس ما أراد تقديمه صادقي في متنه الروائي من خلال حكاية تعتمد على قتل شخصياتها، وإعادة بعثهم للحياة عبر الكوابيس من جديد، مسندًا للنهر مهمة الموت والبعث للحياة، ليتحول في "المستنقع" لأسطورة من أساطير العالم.

اقرأ/ي أيضًا: فيروزة دوماس.. "خنده دار" بالفارسية

يتطرق صادقي على لسان راوي "المستنقع" إلى الحياة الاقتصادية عندما نشبت الحرب الإيرانية – العراقية ملقيًا لمحة سريعة عن واقعها، ومظهرًا تردي الحالة الاقتصادية بامتناع سكان طهران عن شراء الكتب، والتي نلمسها في حوار الراوي مع صاحب المكتبة التي عمل فيها سابقًا قبل أن يفصل بسبب غيابه لأسبوع بدلًا من يومين بعد وفاة والده، فهو اعتبر ذهابه إلى أصفهان من أجل العزاء مجرد واجب، ولم يظهر عليه التأثر كثيرًا لكنه في المقابل بدأ يعاني من الكوابيس التي كان يزوره فيها والده.

من أصفهان إلى طهران، يروي لنا جعفر مدرس صادقي سيرة قصيرة بفصول مكثفة عن واقع حياة، نقرأ عنها من خلال نهر "زاينده" الذي يتحول إلى "مستنقع" موحل بالسياسة، الحياة الاجتماعية، الاضطرابات النفسية، وخلود الراوي مع نفسه بقرار السفر إلى طهران كما لو أنه يهرب من ماضٍ سيء إلى حاضر أسوأ، إنها ببساطة رواية عن ذاكرة إيرانية عاصرت مرحلة الثمانينيات بكل ما تحملها من قسوة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أصوات النساء.. قتلُ العصفور الساخر خطيئة

وحدهم الغرباء من يكسرون رتابة الأمكنة