30-نوفمبر-2018

الكاتبة الإيرانية الفرنسية ياسمينة رضا

أوّل ما يسهل على القارئ ملاحظته في رواية "هامركلافيير" (منشورات الجمل، 2016)، ترجمة نزار آغري، للروائية والمسرحية الفرنسية من أصول إيرانية ياسمينة رضا، هو شخصيات العمل التي تُحاول أن تُسابق الوقت، أو أن تسير إلى جواره لتتفادى الخسارة أوّلًا، ولتسوِّي خلافاتها الحادّة مع الحياة ثانيًا.

سوف يكون الموت حدثًا طبيعيًا دون أن يكون نوعًا من الخسارة في رواية "هامركلافيير"

بهذا الشكل، يصير الوقت، بمعنى أن تتقدّم هذه الشخصيات في السّن، هو أن تقترب من حافة الفناء التي تُحاول رضا أدبيًا أن تُبعدها عنها؛ نوعًا من المساحة التي تشتغل الروائية الإيرانية على خلقها لتتمكّن هذه الشخصيات من إجراء مراجعة سريعة لعلاقتها بنفسها أوّلًا، والآخرين، ومُحطيها، والحياة، وأخيرًا الخسارة والوقت.

اقرأ/ي أيضًا: جعفر مدرس صادقي.. كوابيس نهر "زاينده"

تفعل شخصيات "هامركلافيير" كلّ ذلك في أيامها الأخيرة، في اللحظات التي تُدرك فيها أنّ ما هي مُقبلة عليه، لا يُبشّر بخير، ليكون بذلك ما سوف يحدث، أي الموت، حدثًا طبيعيًا دون أن يكون نوعًا من الخسارة. وأيضًا، لتتفادى هذه الشخصيات الشّعور بالندم على أشياء مرّت، ومضت دون رجعة. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، لئلّا يكون الأمر، أي الموت، انتصارًا للوقت. الوقت الذي تختزل ياسمينة رضا هوس شخصيات نصّها فيه، أو البشر بصورةٍ عامّة، حين تقول: "فليحدث ما يحدث ولتمر اللحظات العصيبة وليكن ما يكن وليمر الوقت، عدوي اللدود، من دون أن أنتبه"(ص 37). ولكنّ رضا تعود وتعبّر عن مآزق علاقة البشر بالوقت حين تطرح السؤال التالي: "ولكن... الجنّة، أهذا ما أطمح إليه بالفعل؟" (ص 39).

سؤال كهذا، يحمل قدرًا كبيرًا من الشّعور بالخسارة والندم. أكان ذلك بشكلٍ موارب أو مُباشر. وأيضًا، يُثير في نفس البعض سؤالًا مثل: "هل أهدرنا نحن البشر الوقت/ الحياة في غير مكانها/ مكانه الصحيح؟". ويُمكن القول إنّ هذا السؤال يُفسّر أيضًا سبب انتقاء ياسمينة لشخصياتٍ كهذه، مُستسلمة، لا لأنّها ضعيفة، وإنّما لأنّها لا تجد سببًا واحدًا للصراع من أجل البقاء، وكأنّها توصّلت، عبر المعاناة الشخصية، إلى حقيقة أنّ لا شيء يستحق بالفعل الصراع لأجله، وبذل جهدٍ قد يصبّ في غير مكانه.

غلاف هامركلافيير

بهذا الشكل، يصير الموت هنا شكلًا من أشكال تصحيح الأخطاء، أو الاعتذار للذات عمّا كابدته حينما كانت حيّة. وبذلك، يفقد معناه كخسارةٍ أيضًا. "مارتا مريضة. لا أحد يعرف كيف بدأ الأمر، أو مما تعاني بالضبط. تزداد هزالًا في كلّ يوم ويبدو كما لو أنّها برمت من العيش. إنّها تعاني من فقدان الحماسة في الحياة". هذا كلّه، يقود القارئ إلى حقيقة أنّ ياسمينة رضا تلعب في نصّها الروائي هذا، بشكلٍ أو بآخر، دور طبيبة نفسية تُعيد سرد أجزاء من أزمات الآخرين وحكاياتهم، لا لتعالجها، أو تحلّها، وإنّما لتبلورها للقارئ من جهة، وتُعيد من خلالها صياغة علاقتها هي نفسها بما يُحيط بها من جهةٍ أخرى: بشرًا وأشياء ومعتقدات وآراء وكلّ الأمور المتّصلة بحياة البشر اليومية. فالبشر، أولئك الذين ليسوا ياسمينة، ولن يكونوها أبدًا، هم الآخر، ذلك الذي تعرّفه حين تقول إنّه عذابها، عزلتها، ويأسها عند الفجر.  

في رواية "هامركلافيير"، يصعب تحديد الملامح النفسية لشخصيات الكاتبة الإيرانية ياسمينة رضا لفرط اضطرابها

تأمّل شخصيات رواية "هامركلافيير"، تلك التي لا تفتعل إلّا القليل من الأحداث، والتي لا تأتي، كلّها، إلّا كجزءٍ من استعادة ياسمينة رضا لنتف من حياتها الشخصية؛ يقود القارئ إلى حقيقة أنّها شخصياتٍ لفرط اضطرابها، يصير من الصعب تحديد ملامح حالاتها النفسية بشكلٍ دقيق وأكثر وضوحًا. ما يصعّب المهمة الأكثر هو التناقض الذي يعيش هؤلاء البشر وفقًا له. ولذلك، يكون من الطبيعي أن تملك امرأة مشاكل عدّة مع الزمن، باعتباره، حين ينضج، يصير مكانًا غير صالح لحدوث ما توّد حدوثه.

اقرأ/ي أيضًا: إيران المعاصرة في 4 كتب

هذه المرأة نفسها تتمنّى أن تعيش بهدوء، ولكنّها في الوقت نفسه، تتمنّى أن تخسر نفسها بهدوءٍ أيضًا. على الجانب الآخر، ثمّة من يرى الحياة برمّتها فرصةً للوجود فقط، أو بتعبير أدق، مكانًا يمكّن المرء من تكوين ما يدلّ على وجوده فقط، سيرةً ذاتية أو حكاياتٍ يستعيدها الآخرون بعد أن يغادر الحياة. إنّها، أي الحياة، وكما يراها، ردًّا عادلًا على أنّه ذات يوم لم يكن موجودًا، وذات يوم أيضًا، لن يكون موجودًا. ناهيك عن امرأة تُتابع نشرات الأخبار والتقارير التلفزيونية عن الحروب لا لمشاهدة ما يحلّ بالبشر من خرابٍ ودمار، إنّما لتتأمّل الطبيعة الموجودة بالخلفية، دون أن تكون معنية بمشاهد الموت والدماء. أمّا أكثر الشخصيات غرابةً، أو قدرةً على صدم القارئ، فهي الممرضة التي يطلب شخص يدعى غابرييل منها عبر الهاتف أن تُقبّل أمّه عنه، فترّد بالقول: "لدي أشياء أخرى لأقوم بها".

 

اقرأ/ي أيضًا:

 فيروزة دوماس.. "خنده دار" بالفارسية

عباس كيارستمي.. ريح الشعر وأوراق السينما