15-أغسطس-2021

كاريكاتير لـ حسن عبادي/ فلسطين

أينما أطلقت رشقة رصاص، وأسقطت قتيلًا، فقد أشعلت حربًا. 

قد تتوقف عند هذا القتيل، او تحصد بعده ملايين القتلى، قد تضبط جبهتها بالشارع الذي أطلق فيه الرصاص، وقد تمدّها لآلاف الكيلومترات، قد تبردّها بالعقل، وقد تؤججها بنداءات الثأر ودم الأجداد وتفاسير النصوص المقدّسة.

بالمعنى الإنساني كل الحروب أهلية، ويمكنني القول متحررًا تمامًا من شبهة الشعر: الحرب العالمية الثانية كانت حربًا أهلية، فكل من ماتوا فيها كانوا أهلي

هذه ليست فروقات بل مجرّد تدرّجات، ولا تغير في طبيعة الأمر شيئًا، فالحرب هي الحرب، وقد نختلف فقط على تسميتها، ولكنّنا نتفق (ولو لم نتفق) على دفع ثمنها والذي يساوي سعر خسارة مضروبًا بعددنا. نسميها حربًا أهلية، نسميها حربًا إقليمية، نسميها حربًا عالمية. هذا يتعلق بخارطة القوى المنخرطة فيها، ولكنه قبل ذلك وفوق ذلك يتعلّق بالموضع الذي ترى نفسك فيه، والمدى الذي تبعده عن الحرب وعن أطرافها. 

اقرأ/ي أيضًا: نفايات الحرب الأهلية

بالمعنى الإنساني (وربما الأدبي) فكل الحروب أهلية، ويمكنني القول متحررًا تمامًا من شبهة الشعر: الحرب العالمية الثانية كانت حربًا أهلية، فكل من ماتوا فيها كانوا أهلي. وما دونها من حروب أستطيع أن أسميه مشاجرة.

الحروب الخارجية تكون ضد كائنات فضائية.. ضد ثقوب في الغلاف الجوي.. ضد فيروس. ما عدا ذلك فهي شؤون داخلية سنحلها بشكل أو بآخر، سنحلها بأنفسنا، أو سيحلها الزمن بطريقة أقسى قليلًا.

أعرف أن الفكرة ما زالت ملطّخة ببعض الحس الشعري، وأن لا بد من وجود تعريف رياضي يفرّق بين الحرب الخارجية والحرب الأهلية. في الأدبيات الأكاديمية يوجد أكثر من معيار وأكثر من تعريف، ربما يكون أكثرها حصولًا على التوافق هو برنامج أوبسالا (في جامعة أوبسالا السويدية) والذي يقسم النزاعات المسلّحة إلى ثلاث فئات: "الصراع القائم على الدولة" و"الصراع غير الحكومي" و"العنف من جانب واحد"، والفئة الأولى هي ما يعتبره الحدس الشعبي حربًا، وهو إما أن يكون بين دولتين (أو أكثر) أو بين حكومة دولة وجماعات مسلّحة تتحدى سلطتها، بينما يميل الحدس لاعتبار الفئتين الثانية والثالثة على أنّها فوضى، ظلم، والأفضل على الإطلاق هو التعبير العامي المصري والشامي "خناقة".

طبعًا لا تترك البرامج الأكاديمية لحدسنا الحرية الكاملة ليقيّم كما يريد، بل تضع معيارًا لما يمكن تصنيفه نزاعًا مسلحًا، فتقول إن النزاع الناشب بين طرفين أحدهما على الأقل حكومي، وأدى لمقتل 25 شخصًا في المعارك خلال سنة، هو نزاع محدود، أما النزاع الـذي يتسبب بمقتل 25 -1000 قتيل في سنة تقييمة واحدة فهو ـ يا للدقة واللطافة ـ نزاع مسلح بسيط. ولا يستحق لقب نزاع إلى حين يتجاوز عدد قتلاه الالف كل عام. 

لا بأس، حروبنا بخير، وكل نزاعات منطقتنا اجتازت تلك التحديات (المعيارية) بنجاح، وكانت حريصة منذ أيامها الأولى أن تنجز حجم العمل المطلوب منها لبقية السنة، فقتلت بضعة آلاف فيما تعلن عن نفسها، ثم استطاعت بعد ذلك أن تهدأ وتتابع حصد الأرواح دون أي ضغوط من لجان التحكيم. 

وصلنا جميعًا إلى نقطة اليأس الرائعة تلك، حيث لم يعنينا أن يكون اسم حروبنا شجارات أو حربًا عالمية، والأهم أنه لم يعد يعنينا كيف تنتهي وأي سيناريو سيكون من نصيبها كي تنتهي

نالت جميعًا اللقب الكبير المحترم "نزاع" ونالت باقتدار صفة "حرب أهلية" ولهذا إيجابية واحدة في النهاية، أن نتمكن من قراءتها على هذا الأساس، وبمقاييس الحروب الأهلية.

اقرأ/ي أيضًا: في ثقافة الحرب الأهلية

فمن بين 278 حربًا أهلية نشبت في العالم في الـ 140 سنة الماضية (بمعدل حرب جديدة كل خمسة أشهر) انتهت جميعًا بواحدة من سبع طرق أو بمزج اثنتين منها:

ـ الحل الصفري (انتصار حاسم وواضح من أحد أطراف النزاع)

ـ القوة الخارجية العاتية (نموذجها الأوضح كوسوفو)

ـ التقاسم: (تقاسم موضوع النزاع مثل ثروة أرض... نموذجها الواضح السودان)

ـ التشارك: (العراق نموذج لمزج تقنيتي التشارك والتقاسم) 

ـ التأجيل (وهو التقنية التي استخدمت لإنهاء الحرب اللبنانية)

ـ التناوب: (تناوب السلطة كل عامين أو كل دورة انتخابية واستخدمت في نزاعات أمريكا اللاتينية في السبعينات والثمانيات) 

ـ الطرف الثالث الضعيف: التوافق بين طرفي النزاع على طرف ثالث ويشترط ألا يملك ما يمكنه من تثبيت مواقعه والاستئثار بالسلطة (من جماعة صغيرة، ضعيفة التسليح والنفوذ)

أظننا في الدول الملتهبة في المنطقة قد وصلنا جميعًا إلى نقطة اليأس الرائعة تلك، حيث لم يعنينا أن يكون اسم حروبنا شجارات أو حربًا عالمية، والأهم أنه لم يعد يعنينا كيف تنتهي وأي سيناريو سيكون من نصيبها كي تنتهي، نريد لها فقط أن تنتهي، وقد انتهينا وانتهت أوطاننا قبلها. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"في سبيل الله والفوهرر".. النازيون والإسلام في الحرب العالمية الثانية

المركز العربي يقارب الذكرى المئوية للحرب العالمية