18-يونيو-2023
مجزرة المماليك

عام 1811 ارتكب محمد علي مجزرة راح ضحيتها حوالي 500 من المماليك أنهت وجودهم السياسي

لا تحتاج الأنظمة السياسيّة، أكانت شموليّة أم شماليّة، إلى نبهةٍ فكريّةٍ في التّعامل مع الثّوابت الأساسيّة في بناء الدّولة؛ قانونٌ واحدٌ يكفي لأن يستمرّ الحكم وتظلّ المسيرة، ذلك هو قانون هيرودس: اقض عليهم قبل أن يقضوا عليك.

قانون هيرودس هو عنوانٌ لأحد الأفلام المكسيكيّة (إنتاج 1999) يوضّح الفيلم أحقاب التّحوّل السياسيّ في المكسيك في أربعينيّات القرن الماضي، لكن ليس فرضًا الحديث عن محتوى الفيلم أو الإسقاطات التي يقدّمها، بل من الهامّ إسقاط هذا القانون على الحالة السياسيّة العربيّة على أقل تقدير في الأنظمة العربيّة القائمة على قوّة السّلطة قبل قوّة القانون. ولا غرابة أنّ هذه الأنظمة تتّبع قانون هيرودس في كل تفاصيل الحياة السياسيّة والمدنيّة، وفي أبعد الحالات فإنّ فرضيّة وجود دستور إنسانيّ يحاكي حقوق الفرد وتطلّعات المجتمع تكاد تكون فرضيّات تثبت على الماء، لذلك نجد التّعنّت في حبّ السّلطة، وتقديم القربان فداءً للإمارة والحكم.

يقول الفيلسوف الفرنسي جوزيف دي مايستر : "كلّ صور العظمة، وكلّ تجليّات القوّة، وكلّ أشكال الخضوع للسّلطة ترتكز على السّيّاف"

قبل الشّروع في الحديث عن إسقاطات القانون وجب الحديث عن تاريخ هيرودس في مرويّات التاريخ. إنّ معظم تلك المرويّات جاءت من الكتب المقدّسة ويمكن خصر المعلومات في أنّ هيرودس (مات قبل ميلاد المسيح بعدّة سنوات) هو ملك حشمونيّ كان ظلّ روما في القدس وملكًا عليها، دام ملكه سبعة وثلاثين عامًا، ولديمومة ذلك الملك اقتضت الحاجة أن يتخلّص من كلّ تبعيّات الحكم الكهنيّ اليهوديّ؛ فقتل هركانوس، وقتل أرسطوبولس وهما أبرز الوجوه الدينيّة في تلك الفترة، قتل زوجته، وقتل أولاده: أرسطوبولس وأنتيبطرس. إنّ هذه الحكمة الأزليّة عند هيرودس يقتل لأنه يملك السّلطة ومن أجل السلطة. ومن سرديّات العجائبيّة أنّه عندما أحسّ باقتراب أجله أمر بقتل كلّ المساجين حتّى يعمّ الحزن في كلّ بيتٍ في فلسطين، ولا يفرح أحد بوفاته، لكنّ وصيّته لم تنفّذ.

عبر القراءة الحفريّة في تكوين السّلطات وتأصيلها نجد نمذجة قانون هيرودس في كل الأمكنة والأزمنة، ويمكن عرض النماذج الآتية: مذبحة القلعة (1811)، المجزرة الّتي قام بها محمد علي باشا ضد خصومه من المماليك بعد أن دعاهم لمصالحة عامّة وجمعهم في قلعة صلاح الدّين فقضى عليهم قبل أن يقضوا عليه. مجزرة ليلة السّكاكين الطّويلة (1934) تلك المجزرة التي قام بها أدولف هتلر ضدّ الرّفاق والخصوم ممن عارضوا سياسته أو لم يتوافقوا مع مبادئه، وقد وصف هيرمان غورينغ Hermann Goering أحد كبار الضّباط المنفذين للمجزرة: "من الجيّد أنّا محوناهم عن الوجود، قبل أن يمحوننا هم عن الوجود"، أيّ اقض عليهم قبل أن يقضوا عليك. وشبيه تلك المجزرة هناك في العراق ما يعرف بمجزرة الرفاق (1979) إذ حيّد صدّام حسين عشرات القادة البعثيين بعد أيّام قليلة من تولّيه السّلطة تثبيتا لحكمه، وذلك بعد الاجتماع المعروف في قاعة الخلد في بغداد. والصّورة الأبشع مجزرة سجن أبو سليم (1996) التي قام بها معمّر القذّافي ضدّ خصومه من الإسلاميين وغيرهم بعد أن فتح عليهم النّيران داخل السّجن، وقيل إنّ عددًا من الضّحايا جمّدت جثثهم ليكونوا أيقونة للموت، وبشاعة السّلطة.

في المقابل، يمكن الحديث عن نماذج السّلطة وقوّة القانون في الحالة الثوريّة الحديثة، أو ما يسمّى حراك الربيع العربيّ وفرض قانون هيرودس إذ نجد النّظام المصريّ يستخدم سلطة القانون في وأد أي حراك سياسيّ بعد أن ثبّت حكمه بعد في مجزرة رابعة (2013).

والحالة القريبة هيرودس حاضرًا في الحالة التونسيّة يمكن الحديث عن وأد حركة النهضة باستخدام قاعدة القتل خارج حدود الجسد من خلال فرض قوّة القانون الوضعيّ، وفرض الاعتقالات وهدم الدّستور، وهدم مجلس الشّعب المنتخب.

أمّا الحالة النظريّة في نماذج قانون هيرودس فيمكن أن نقدّمه في المشابهة مع أدبيّات حبك القانون، ففي خطبةٍ مشهورةٍ ليزيد بن المقنّع في حضرة الخليفة الأمويّ معاوية بن أبي سفيان، إذ خطب ابن المقنّع: "أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد بن معاوية، فمن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه". وليس بعيدًا عن فلسفة ابن المقنّع، جاء الفيلسوف الفرنسيّ جوزيف دي مايستر Joseph de Maistre المعادي للثورة الفرنسيّة مظهرًا رؤيته بحالات الإعدام إذ يفسّر أنّ الإعدام عقدة الحكم وضابط الإجماع البشريّ فيقول: "كلّ صور العظمة، وكلّ تجليّات القوّة، وكلّ أشكال الخضوع للسّلطة ترتكز على السّيّاف".

إنّ الكلام يطول في فرض هيمنة قانون هيرودس على الأنظمة فالنّماذج كثيرة، وهذا القانون لحظيّ في ظل مجتمعات غاب عنها الوعي السياسيّ، والفكريّ، والحضاريّ، وفي أنظمة سادت فيها ثقافة البقاء للأقوى، وهي أشبه بمجتمعات الصّيد وجمع الطّعام.

أن نبقى ننتظر هيمنة القوّة في ظلّ غياب حكومة قوانين وهيمنة حكومات بشر، وكأنّا ننتظر نطع السّياف، وكما نظّر العديد فإنّ أيّ تقدّمٍ لأيّ مجتمع هو نتيجة ثانويّة للتعاون البشريّ الذي بدوره يمكن أن يجعل الفرد متعايشًا في أن يكون حرًّا ومحكومًا في حكومات قوانين لا حكومات بشر، ويبقى هيرودس ما بقيت رائحة حبّ السّلطة تلك السّلطة حلوة الرّضاع مرّة الفطام.