14-يونيو-2023
مناورة حزب الله العسكرية

مناورة حزب الله العسكرية (رويترز)

بات مثيرًا للضحك الكلام عن السيادة في لبنان، بعد كثرة الانتهاكات التي تطالها وتحيلها مفهومًا بلا أي مضمون. وبات من السخرية القول إن لبنان دولة حرة سيدة مستقلة؛ هذا الشعار اللازمة في الخطب السياسية والذي لا تكفّ الأطراف اللبنانية التي تستخدمه عن ممارساتها التي تبطله. هذا دون الحاجة إلى التذكير بأن عائق الدولة عن تحقيق هذه الشعارات هو حالة الدولة نفسها، عطبها البنيوي والجيني، وليس مجرد أمر طارئ عليها من خارجها، أمر لا يكف عن الظهور بكل أشكالها التي مرّت فيها منذ عهد الاستقلال وصولًا إلى اليوم، وإن بنسب وتكثيفات ودرجات متباينة. فالدولة اللبنانية تحوي في بنيتها جميع أنواع عوائق تشكّلها دولة سيدة حرة ومستقلة، لأنها دولة تقوم على جمع جماعات بانتماءات وطوائف مختلفة لا إمكانية للتوحيد بينها، ولا تعمل على صهرهم فتحيلهم شعبًا واحدًا بمصالح واحدة، بالإضافة إلى أنها تقوم على دستور معطوب وعلى قوانين موقوفة تميّز بين الناس.

إن كل ما يُمارَس في لبنان يشير إلى أنه دولة تتناقض مع معايير احتكار العنف المعنوي والرمزي، الذي يفترض أن تمارسه أجهزتها على جميع مواطنيها وأراضيها، بالتساوي وبالشدّة ذاتها، بل لطالما كان هناك طرف يسيّر الدولة كيفما يريد، ويأخذها أينما يحلو له، بحيث تنطبق آليات العنف والسياقات السياسية العامة التي يمارسها على الآخرين، فتصبح عنف الدولة وسياساتها الخارجية.

الدولة اللبنانية تحوي في بنيتها جميع أنواع عوائق تشكّلها دولة سيدة وحرة ومستقلة، لأنها دولة تقوم على جمع جماعات بانتماءات وطوائف مختلفة لا إمكانية للتوحيد بينها

في هذا السياق ترد المناورة العسكرية التي قام حزب الله بها منذ أيام. مناورة على أرض لبنانية، في قرية عرمتى الجنوبية، في تحد سافر للشرعية المتمثلة بالأجهزة وبالمؤسسات وبالقدرة على اتخاذ القرار. مناورة أمام أعين الجيش، والقوى الأمنية والعسكرية، والقوات الدولية، وتحت أعين الإعلام والقضاء والسلطتين التنفيذية والتشريعية، مباشرة بعد القمة العربية، دون أن يحرك أي أحد من هؤلاء أي ساكن، لا بوصفه وصيًا على مؤسسة تقرر في الأمن، أو في القضاء، ولا بوصفه حليفًا للحزب ولا بوصفه خصمًا له.

وما يزيد الطين بلّة هو أن حزب الله يمعن، بين الوقت والآخر، في الكلام عن ضرورة تحقيق سيادة واستقلالية الدولة وانفصال كل الأطراف السياسية عن تبعياتهم الخارجية، منطلقًا من مسلّمة تفرض أنموذجًا للسيادة وللاستقلال يخالف كل الشرائع والعلوم والمعايير السياسية المتبّعة، خصوصًا في مرحلة تشكّل الدولة الأمة. فهو يريد أن يسلّم اللبنانيون معه بأن سلاحه الذي يهيمن على الدولة، والذي يُستخدم في فرض الشروط والمعادلات على بقية الأطراف السياسية، ويحمي عناصره من أي أحكام تطالهم، ويحمي نظام الفساد والجريمة الذي يشترك فيه ويديره، لا يتعارض مع سيادة الدولة على أراضيها، ولا يتعارض مع سيادة الدولة في فرض شروط ونمط علاقاتها مع بقية الدول في سياساتها الخارجية.

كما أنه يريد أن يقنع الآخرين بأن تبعيته لإيران، وعلى الرغم من قدرتها على توريط الدولة اللبنانية في مآزق مع الدول العربية قبل أي مجابهة مع العدو الإسرائيلي، وعلى الرغم من فرض هيمنته على اللبنانيين من خارج أي عقد اجتماعي، هي تبعية لا تتعارض مع الاستقلالية، هي تحالف يخدم الدولة ولا يقضي عليها ولا يهدّد وجودها.

لقد قرر حزب الله إجراء مناورة عسكرية في الزمان والمكان اللذين يحلوان له. فهل قرر الحزب تبنّي مفهومًا "ما بعد حداثيًا" للسيادة، على منوال مفهوم "غسق السيادة"؟ أم لعله بات أكثر صدقًا مع نفسه، ومع الآخرين، وبات يعترف بأنه الأقوى في الدولة والنظام، وفي الأجهزة، والقضاء، دون أي تردّد أو حرج، بما يسمح له القيام بهكذا مناورة دون حسبان أية تداعيات؟

وفي السياق، يحيل توقيت المناورة إلى مجموعة رسائل موجهة إلى الداخل اللبناني، وإلى القمة العربية، وإلى العالم، وإلى دولة الاحتلال وتلويحاتها المستمرة بالحرب على لبنان وعلى إيران. وهذا ليس بجديد، فلطالما عمل الحزب على استخدام سلاحه لحسم الأمور في الداخل اللبناني، كأن يحسّن اليوم شروط التصويت لمرشحه لرئاسة الجمهورية، بالإضافة إلى استخدامه لتوزيع الرسائل على العالم أجمع. ولطالما عمل أيضًا، منذ بداياته، على تحويل لبنان صندوق بريد إيراني تجاه المنطقة العربية والعالم، وشرط شروط تحسين إيران مواقعها التفاوضية.

فمن ناحية القمة العربية، هل يعني أمر المناورة تناقضًا بين إيران وحزب الله على كيفية التعامل مع قمة عربية تطوّب المملكة السعودية فيها قيادةً للدول العربية؟ وأن هناك مجموعة تقاطعات يغرّد فيها حزب الله خارج سرب التقاطع الإيراني السعودي، وهو يحاول إيصال مجموعة رسائل مفادها أن إعادة ترتيب المنطقة لن تكون على حسابه، خصوصًا وأن مصلحته تتقاطع في هذا الموضع مع المصلحة الروسية الرافضة لقمة يشارك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي فيها، ناهيك عن تقاطع الحزب، أولًا وأخيرًا، مع مصلحة بعض الدول التي قد لا يناسبها محاولات القيادة السعودية المستجدة للعالم العربي.

لربما تحمل المناورة رسالة واضحة المعالم إلى العدو الإسرائيلي، وهي تتمحور حول إظهار الانتقال من قوة حزب الله الردعية إلى قوته الهجومية، إلا أن اليمين الإسرائيلي لا بد أن يستفيد منها بحيث يعيد تدويرها في داخل الكيان المأزوم والمنفجر في وجهه. لكن سياق الأحداث الأخيرة، والتي أتت بعد المناورة، خصوصًا في الداخل اللبناني، ترجّح أن تكون الرسالة من خلفها أكثر ارتباطًا بالداخل. فمع احتدام الصراع فيما خص استحقاق رئاسة الجمهورية، واقتراب جلسة الانتخاب التي دعا رئيس المجلس النيابي إليها في 14 حزيران/يونيو 2023، ومع تصاعد كمية التقاطعات على التصويت للوزير الأسبق جهاد أزعور والتي باتت تجمع "قوى التغيير" مع القوى المسيحية مع التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل، بهدف الإطاحة بمرشح الثنائي الشيعي والنظام السوري، أي سليمان فرنجية. ومع تصاعد التهديدات المنشورة على المنصات القريبة من الثنائي الشيعي لهذه القوة ولهذا المرشّح، فإن الأمر بات وكأنه رسالة تقول وبصريح العبارة إن انتخاب رئيس للجمهورية لا أوافق عليه، ولا يكون رهن إشارتي، ولا يكون منفذًّا فعليًا لمجموع مصالحي، لن يكون بمثابة استحقاق محض ديموقراطي نلتزم به وبنتائجه دون أن نواجهه ولو بالقوة.