15-يونيو-2023
النوري

فايز النوري (يوتيوب/تلفزيون سوريا)

"إعاقة مسيرة التحول الاشتراكي". تفورُ الرومانسيّة من هذه التهمة التي كانت تدين بها محكمة أمن الدولة العليا في دمشق معارضي حكم البعث، وتعادلُ درجة الرومانسية والعبث في قصّة حياة فايز النوري وتحوّله من أستاذٍ للرسم والفنون في محافظة دير الزور إلى رئيس محكمة أمن الدولة عام 1979.

لهجتُه الفراتية، نظّاراته الغامقة، بدلته الرسمية المخطّطة، الأرائك الوثيرة في صالون بيته، زجاجاتُ الويسكي في الفاترينات الفاخرة التي لا تظهر في كادر الكاميرا، واصفرار أسنانه من تدخين السيجار، كلّها توحي وكأنّما هو روحُ بعثِ العراق وقد حلّت في جسد بعث سوريا، أو على الأقل شبحًا مُطيعًا تسرّب من منامات صدام حسين إلى يوميات حافظ الأسد.

يؤكد على أنّه شخصٌ بطبيعته لا يكذب ويحبّ الدين حتى أنّه حجّ مرتين ولم يُعدِم سوى 18 قاتلًا.

تدرّج في المناصب الحزبية حتى بات نديم "القائد رفعت" في سهراته العامرة، والتمعّن قليلًا في صور النوريّ شابًا سيكفي للتأكد بأنّه كان ليغدو لو قُدّر له في حياةٍ موازيةٍ تلك الشخصيةَ النموذجية لمسؤولٍ شابٍ في البعث العراقي، ليلفتَ سريعًا نظر عدي صدام حسين فيصطحبه معه إلى ملاهي بغداد ويضحك على نكاته الغبية.

حوّل النوري المحكمة إلى لعبةٍ تُشبه ألعاب تلفزيون الواقع، قاعةً للتسلية وتزجية الوقت والمصائر، وممارسة السلطة والسباحة بفيضها واختبارِ قدرتها على أن تصبح قسوةً وضحكةً وتشاوفًا ومناكفةً ومزاجيةً وطريقةَ كلامٍ ووضعية جلوس، وإلى قوةٍ تُفضي إلى الملل ومللٍ يُفضي إلى شنقِ المنطق قبل النطق بالحكم. يقول الشاعر فرج بيرقدار في وثائقي "محكمة أمن الدولة"، إنّ النوري من باب الاستهتار كان يتّهم الشيوعي بمعاداة الاشتراكية والإخواني بالكفر!

يتداعى حرًّا القاضي فايز النوري خلال مقابلته الوحيدة التي أجريت معه عام 2012، بطريقةٍ تشبه التداعي البعثيَّ الحرّ الذي وقع تحت تأثيره في يوم من الأيام دياب الماشي عضو مجلس الشعب السوري الذي أصبح أقدم برلماني في العالم، خلال المحاورة الشهيرة على ضفاف الفرات بينه وبين المخرج الراحل عمر أميرلاي في فيلمه "طوفان في دولة البعث". تجلّى البعث في حديثي النوري والماشي جوهرًا نقيًّا مفارقًا للآخر، لا تشوبه سياسةٌ ولا خبثٌ ولا نفاقٌ ولا رياءٌ ولا مواربة.

 

يقول النوري في المقابلة التي يعرضها الوثائقي الذي بثه تلفزيون سوريا بأنّ "البعث انقلابي في كل الدول العربية وتقوم دولة البعث الكبرى بالوحدة العربية"، وبأنّ المحكمة وُجدتْ للحفاظ على الحزب وعلى إرثه الكبير وحمايته من أعدائه، وأنّها، أي المحكمة، دستوريةٌ وليست استثنائيةً، ولكنّ القضاء لا يتيح الاستئناف بحكمها. ويؤكد على أنّه شخصٌ بطبيعته لا يكذب ويحبّ الدين حتى أنّه حجّ مرتين ولم يُعدِم سوى 18 قاتلًا.

بعد عام 2000، التبستْ علاقة الرئيس الجديد مع حزب البعث، فتعامل معه بوفاءٍ ونظرَ إليه كضرورة، إلّا أنّ شيئًا كان يَبعثُ على الاعتقاد بأنّ الحزب فُرض عليه فرضًا، وبأنّه تركةٌ لم يرغب بها، لكن ما العمل والبعث أشبهُ باسم عائلةٍ أو مكانِ ولادةٍ أو لون بشرة، أمرٌ لا يمكن التخلص منه كليًّا. ولأننا لا ننظر للتاريخ كسلسلة أخطاء على اعتبار أنّ التاريخ من صنيعة آبائنا، فلنقل تطويرًا وتحديثًا لا إصلاحًا وتغييرًا. بيدَ أنّ البعثيين القدامى أمثال النوري أحسّوا أنّ اشتراكيّتهم النهّابة لا تلائم أساليب الفساد في اقتصاد السوق الاجتماعي، فانتابهم القلق على مستقبلهم وترجّوا القيادة "سنكون عونًا لكم، جندًا أوفياء، نحن نعلم أنّنا لن نحظى بالقدر نفسه من القوة، لكننا سنظل معكم ونُحدّث ونطوّر أنفسنا طوال الوقت، سنتعلّم العمل على الكمبيوتر ونُغيّر بدلات السفاري وسننسى أننا جزءٌ من معكسرٍ اشتراكيّ، ونتوقف عن صبغ شواربنا لا بل سنحلقها ذلك أفضل".

مةم

سيُحال النوري إلى التقاعد عام 2011، متأخرًا سنواتٍ عن رفاقٍ له في الحرس القديم ذهبوا إلى بيوتهم تباعًا، كانوا جزءًا من دورة الحكم الأولى، طَبقةً من مُحدثي النعمة الخائفين من الارتدادِ إلى الفقر، فاختلسوا الخزنات وأسّسوا مشاريعهم الخاصة بالشراكة مع التجار المرنين، بنوا القصور واشتروا السيارات الفارهة، افتتحوا المطاعم واحتكروا رخص الاستيراد، منعوا الكتب ونشروا مؤلفاتهم التي تحوي في كلّ صفحة اقتباسًا من كتاب "حافظ الأسد قيم فكريّة إنسانية"، خرجوا للصيد في البادية ودفنوا النفايات القاتلة في الصحراء، قضموا الكثير من الفستق وحصلوا على شهادات الدكتوراه من بلدان أوروبا الشرقيّة.

بعدما خرجتْ الاحتجاجات ضد حكم البعث، ألغتْ السلطة المادة الثامنة من الدستور التي تُنصّب البعث قائدًا للدولة والمجتمع. ومن جملة القرارات التي ظنوا أنّ تنفيذها سيمتص غضب الناس، قرارٌ يقضي بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا.

في نهاية المقابلة يرفض فايز النوري قرار الرئيس ويعدّه أكثر من خاطئ، لأنّ "محكمة أمن الدولة لا تحاكم سوى المجرمين" وهي "محكمة تراثية" كما قال بالحرف.