15-يونيو-2023
كاريكاتير لـ عمر ترسيوس/ إسبانيا

كاريكاتير لـ عمر ترسيوس/ إسبانيا

بعد زمن اختلاط الأشياء والمعاني، وتلاشي الحدود بينها، نعود إلى البديهيات عوداتٍ متكررةً لنسأل أسئلة كثيرةً، من بينها: ما الذي نعنيه اليوم حين نستعمل كلمات مثل "صحافة" أو "إعلام"؟

ما من شكٍّ بأنّ أشكال الصحافة والإعلام لا تزال هي نفسها: مقروءة ومسموعة ومرئية، غير أن السؤال معنيّ بما حدث داخل كلّ واحدة منها.

وبعيدًا عن الحنين إلى زمن الصحيفة الورقية، أو السخط من زحام المنصات؛ لماذا تعلو وتيرة الحديث عن الموت حين يتعلق الأمر بالصحافة، مع أن المقالات لا تزال تهبط علينا من الجهات كلها، والمواد الاستقصائية تواصل الحضور والجذب؟ أيكون المقصود هو فحص مدى فعاليتها في هذا العصر، وقابليتها لأن تكون مرآةً للمجتمع؟ ثم ما البائد وما الباقي منها؟ وما الجديد وما القديم؟ لماذا نتحدث عن صحافيين وإعلاميين وكلّ من حولنا باتوا منهم؟

ترافق خطورة الكذب والتضليل في السوشيال ميديا كارثة موازية، تتجلى في التصفيات التي تقوم بها الخوارزميات للمواد، كي تعطي للأفراد ما يُلبي اهتمامهم، الأمر الذي يقود إلى حصرهم في فقاعات منعزلة

كي نجيب على هذه الأسئلة علينا تذكر أنه مثلما جاء الراديو بعد الصحيفة، وجاء التلفاز بعده، ظلَّ كلُّ ذلك يسمّى صحافةً وإعلامًا، مع فارق في نوعية تناول المادة بحسب خصوصية كلٍّ من هذه الوسائط.

في وقتنا الحالي، تصلنا الأخبار من مصادرها المباشرة، سواء ممن يعيشونها، أو من الشهود عليها، لكنّ ذلك كله لم يتسبّب في احتجاب وكالات الأنباء، فلا تزال هناك أخبار لا يمكن للمواطنين العاديين الحصول عليها، على مستوى السياسيات المحلية والعلاقات الدولية. هذا إلى جانب أنّ هذا التنوع الهائل في المعلومات لن يجعلنا في غنى عن الصحافة الاستقصائية التي تبني سرديات موثوقة.

إذًا، الغائب هو الاعتماد على مصدر واحد للمعلومات، أما ما تبقى فعلى حاله من حيث الجوهر، لأننا نتابع ما كنا نتابعه من قبل في المجلة والصحيفة، وفي الراديو والتلفزيون، مع فوارق صغيرة أو كبيرة. ربما بات ملاحظًا ذلك الميل السائد إلى الإيجاز في المقالات، وإلى منح سرعة "التحديثات المستمرة" مكانة مركزية، مع الابتعاد عن المعالجات ذات الطابع الشامل كالتي كنا نطالعها في المجلات. كما تبقى المشكلة الأشد خطورة هي انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضلّلة، ما يؤكد على ضرورة البعد التحليلي الشامل والعميق للقضايا التي نعيشها، دون أن يشكّل شكل الوسيط الذي يحتوي المادة مشكلةً.

ترافق خطورة الكذب والتضليل كارثة موازية، تتجلى في التصفيات التي تقوم بها الخوارزميات للمواد، كي تعطي للأفراد ما يُلبي اهتمامهم، الأمر الذي يقود إلى حصرهم في فقاعات منعزلة، تمنعهم من معرفة كثير من القضايا والشؤون التي من الممكن أن تثير فضولهم ويهتمون بها.

أما عما يقال حول دور المنصات في انتشار التفاهة والسطيحة، فهذا ليس بالقول العادل والمنصف، لأنّ الأمر برمته يرتبط بطبيعة نظام الليبرالية الجديدة الذي يميل إلى تمييع كل القضايا الجوهرية، ومن ثم إنهاء كل المعاني الجمعية لصالح شؤون فردية قليلة الشأن. دون أن ننسى أن حضور التفاهة والسطحية والابتذال في المنابر الصحافية والإعلامية ليس بالأمر الجديد، فثمة منابر كلاسيكية متنوعة (تلفزيونات على وجه الخصوص) متخصصة بالصفاقة، لها قصب السبق في تقديم برامج تتجاوز قبل الهراء الذين نراه على منصة مثل "تيك توك"، بهدف تحقيق المشاهدات العالية وجلب المعلنين.

هي ليست مشكلةً من صنع السوشيال ميديا، بل ترتبط بتاريخ الصحافة التقليدية التي لم تخجل يومًا من البحث عن ممول أو معلن، فلماذا على المنصات أن تخجل من عملها على جلب المتابعات والزيارات؟

لطالما واجه الوسيط الإعلامي القديم، في كل مرحلة تحول تاريخية، تحديًا جديدًا مع مجيء الوسيط الجديد. وفي كل مرحلة تستعيد الوسائط تعريف هويتها، ومن ثم موضعة نفسها مجددًا على الخريطة الإعلامية. فمثلًا، مع مجيء الراديو وتسجيله تفوقًا نوعيًّا في مجال نقل الأخبار، راحت الصحف تركز على إعطاء مساحة للمواد التحليلية التي تقرأ ما وراء الخبر، مع تعزيز صفحاتها بآراء حرة لكتّاب متنوعين الاتجاهات.

بالمثل، تضع البثوث المباشرة المحطات الإخبارية أمام تحدّ عصيب، يكاد يجعلها تُقلع عن الأخبار العاجلة، أو البث من موقع الحدث، لتحلّ محلها وثائقيات وتقارير ومقابلات مع الفاعلين السياسيين، لا تتوفر الإمكانيات والعلاقات لدى حَمَلة الموبايلات على منافستها!

نبحث عن البودكاست الذي يُقدم المعرفة والقراءة المختلفة بشكل جذّاب، ونحتفي بالمنشور الإلكتروني الذي لم يتخلّ صاحبه عن جماليات الكتابة، ونلاحق الفيديوهات الغنية والمبسطة التي تغنينا عن كتبٍ تخصصية يصعب علينا فهمها. وبسب هذه المرحلة الحاسمة إعلاميًّا، بات راسخًا، أو آخذًا بالترسخ، ذلك الاهتمام العالمي لدينا جميعًا بكل قضايا الكوكب، ونزوعنا العام نحو فتح محادثات تتجاوز اللغات والحدود.

ما يهمنا اليوم هو أن الصحافة لا تزال تَعِدنا بالمساهمة في زيادة الوعي الإنساني، فكريًّا وحقوقيًّا، وبالدفاع عن الحقيقة، والعمل على المساءلة، والسعي نحو العدالة وإحداث تغيير اجتماعي

ما يهمنا اليوم هو أن الصحافة لا تزال تَعِدنا بالمساهمة في زيادة الوعي الإنساني، فكريًّا وحقوقيًّا، وبالدفاع عن الحقيقة، والعمل على المساءلة، والسعي نحو العدالة وإحداث تغيير اجتماعي.

الصحافة قوة لا يستهان بها. والرائع في زماننا أنها متاحة لنا، وفي متناول أيدينا لنقدم فيها ما نريد، ومن حسن حظنا توفر امتياز ديمقراطي لم يكن ممكنًا من قبل، وهو التشاركية والتفاعل مع الآخرين. دون أن نغفل عن كونها أيضًا خاضعة لإرادة من يملكون المال والقوة، وبوسعهم من خلالها غسل العقول، وخلق الحقائق الوهمية التي تناسب توجهاتهم في خلق الوعي الملائم لإدامة سلطتهم.

من تكريس السطحية وانعدام الجودة، ومرورًا بنقصان النزاهة وتزوير الحقائق، وصولًا إلى هيمنة عمالقة التكنولوجيا على المشهد واستمرار سطوة الدولة السرية؛ تُخلق ساحاتُ صراع مفتوحة، لا نعرف من سينتصر فيها في النهاية، لكننا نعرف أنها استمرار، بأشكال أخرى، لصراع قديم تخوضه الإرادة البشرية الحرة مع السلطة، منذ بدايات أزمنة الحرف المطبوع.

أمام هذا الخليط العجيب من الشغف البشريّ ومكائد السلطة وجشع الشركات، كل ما علينا فعله هو ما تعلّمناه منها طوال هذه القرون كلها: الشكّ بالخطاب السائد والبحث عن مصادر جديدة لتشكيل قصة أخرى.

هذا بالضبط ما بقي، وهذا بالضبط ما سيبقى من الصحافة.