04-يناير-2017

الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز (بريندان سميالوسكي-Getty)

قد يكون إحداث هيئة البيعة بغضّ النظر عن محدودية صلاحياتها كمؤشّر إصلاحي للملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز بعد سنة من صعوده حينها، ولكن لم تكن طيلة سنوات حكمه لاحقًا ومع التطوّرات داخل العائلة المالكة، بخارج عن المشروع الشخصي لأي ملك أي ما يتعلق بترتيبات الحكم لمصلحة أبنائه. فقد قربت ساعة نقل السلطة لأحفاد الملك المؤسّس للمرّة الأولى في تاريخ المملكة، وبالتالي ظلّ رجال الجيل الأول أي الملك عبد الله وإخوته الأمراء أصحاب النفوذ داخل الدولة، يسعى كل منهم لتعزيز موقعه وفرص نقل السّلطة لأبنائه.

لم يكن الملك عبد الله بالنهاية وهو يؤسس لهيئة البيعة السعودية ويحدد صلاحياتها بعيدًا عن التوازنات داخل العائلة المالكة

لم يكن الملك عبد الله ينتمي لجناح الأمراء السديريين وهم الأمراء الإخوة الأشقاء من زوجة الملك المؤسس حصّة السديري، ويضمّ هذا الجناح ملكًا راحلًا وهو الملك فهد، وولييْ العهد الرّاحلين سلطان ونايف، اللذيّن توفيّا سنتي 2011 و2012 على التوالي. ويمثل هذا الجناح الأكثر نفوذًا بين أبناء الملك المؤسّس. ولم يكن تفعيل هيئة البيعة متجاوزًا، بالتوازي، للتوازنات والديناميكيات التقليدية داخل الأسرة.

اقرأ/ي أيضًا: هيئة البيعة السعودية..الإصلاح الميت 1/3

فقد عيّن الملك عبدالله يوم إصداره للائحة التنفيذية للهيئة مدير ديوانه خالد التويجري أمينًا عامًا للهيئة، ليكون الشّخص الوحيد من خارج الأسرة الحاكمة، الذي يمكن له متابعة اجتماعاتها، فهو المسؤول الإداري والمالي للهيئة، وهو الوحيد المخوّل له فرز الأصوات وإعلان النتيجة.

لم يكن التويجري رجل الظّل طيلة سنوات الملك عبد الله اسمًا مرغوبًا داخل الأسرة خاصة وأنه كان صاحب نفوذ واسع تجاوز نفوذ أمراء في الصف الأول وهو ليس بـ"أمير". وهو ما أكدته المعاملة "الانتقامية" التي تعرّض إليها لاحقًا بعد إعفائه من منصبه بعد وفاة الملك عبد الله، حيث وقع التحقيق معه في قضايا سياسية ومالية وتم منعه من السفر. غير أنه بالعودة لقرار تعيينه وقتها أمينًا عامًا للهيئة، فلم يكن يتجاوز مشروع الملك عبد الله، فالتويجري لم يُنظر إليه إلا كمكلّف بمهمّة أساسية وهي: تعبيد الطريق لمتعب بن عبد الله للوصول للعرش.

ولعلّ أوّل تجاوز للهيئة من مؤسّسها جاء بعد سنتين من تشكيلها حينما اعترض الأمير طلال بن عبد العزيز، وهو الذي تزعم سابقًا حركة "الأمراء الأحرار" المطالبة بالإصلاح السياسي وهو والد الملياردير الوليد بن طلال، على تعيين الأمير نايف بن عبد العزيز، الذي يتولى وزارة الداخلية منذ 30 سنة كنائب ثان لرئيس مجلس الوزراء مع احتفاظه بالحقيبة الوزارية. وقال الأمير طلال حينها سنة 2009 رفضًا للتعيين إنه كان ينبغي استشارة هيئة البيعة قبل اتخاذ هذا القرار. لم يكن ينصّ نظام البيعة على دور للهيئة بخصوص منصب النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ولم يتحدث عن دور "استشاري" لها، بيد أن تعيين الأمير نايف حينها لذلك المنصب لم يكن يعني إلا فرض اسمه كالرجل الثالث للدولة بعد الملك عبد الله وولي العهد الأمير سلطان. وهو ما كان يعني عمليًا سحب البساط مبكّرًا من الهيئة واستباقًا للملك بفرض اسم وليّ العهد القادم.

حينما توفيّ ولي العهد الأمير سلطان سنة 2011 لاحقًا جاء أول امتحان حقيقي لدور الهيئة. حيث أصدر الملك عبد الله حينها قرارًا ملكيًا ورد فيه أنه بعد الاطلاع على نظام هيئة البيعة، وبعد إبلاغ رئيسها وأعضائها تم اختيار الأمير نايف وليًا للعهد، وأنه وقعت إحالة الأمر للهيئة لمبايعة ولي العهد الجديد "الذي تلقى المبايعة". أكّد هذا القرار حينها أن الأمير نايف لم يكن إلا مرشّح الملك عبد الله لولاية العهد وذلك منذ تعيينه كنائب ثان لمجلس الوزراء، ولكن بقدر ما لم يكن ذلك مفاجئًا، كان الإشكال يتعلق بالنجاح في أول تفعيل حقيقي لصلاحيات الهيئة.

فقد قام الملك عبد الله بدعوة أعضاء هيئة البيعة لقصره وطلب منهم مبايعة وليّ العهد الجديد أي أنه وضعهم أمام الأمر الواقع. بينما كان يستلزم تطبيق نظام البيعة أن يوجّه الملك كتابًا إلى رئيس هيئة البيعة يتضمن من اختاره لولاية العهد لعرضه على هيئة البيعة، أو الطلب من الهيئة ترشيح من تراه لولاية العهد. بيد أن دعوة الملك أعضاء الهيئة لقصره وعرض مرشحه لمبايعته مباشرة لم يكن تطبيقًا نزيهًا لنظامها حيث لم يسمح للهيئة بالتداول فيما بينها بخصوص المرشّح المقترح. وبذلك هُمّشت الهيئة في أول امتحان لها من مؤسسها.

اقرأ/ي أيضًا: كيف خسرت السعودية في مصر؟

وقد ظهرت، خلال هذه المناسبة، خلافات حادّة داخل أعضاء الهيئة وهو ما حدا بالأمير طلال بن عبد العزيز لتقديم استقالته وهو الذي قد سبق وأعلن قبلها بسنتين، سنة 2009، عن رفضه تعيين الأمير نايف كنائب ثانٍ لمجلس الوزراء. كما رفض بدوره الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز تعيين شقيقه نايف الأصغر منه سنًا وليًا للعهد متجاوزًا الأمراء الأشقاء ممّن يكبرونه سنًا. حيث طلب الأمير عبد الرحمن تطبيق ما وصفها بأنها وصية والده المؤسّس وهو انتقال السلطة من الأكبر سنّا إلى الأصغر، وأن تقديم الصغير يستلزم تزكية من الكبير، وهو العرف الذي تم تطبيقه طيلة عقود. هذه المطالبة لم يعد لها أي أساس في الواقع بعد إرساء هيئة البيعة التي أسقط نظامها هذا العرف بالنسخ عبر التنصيص صراحة على أن التعيين يخضع للتوافق أو للأغلبية. ولعلّ أهم دوافع تأسيس هيئة البيعة منذ البداية هو تجاوز العرف المتعلق بعامل السنّ لنقل السلطة، وهو عرف تمكّن الملك عبد الله من تجاوزه بعنوان ظاهره إصلاحي وهو "التعيين للأكثر توافقًا من حوله لا للأكبر سنًا من غيره".

لم يكن قرار تعيين الأمير مقرن كولي ولي للعهد، إلا قطع طريق على الأمير محمد بن نايف الذي كان يُنظر إليه الحفيد الأوفر حظّا في الملك

لم ينته الجدل حول تفعيل صلاحيات هيئة البيعة عند هذا الحدّ. حيث توفيّ وليّ العهد الأمير نايف سنة 2012 بعد سنة واحدة من تعيينه ليعود الجدل مجدّدًا بخصوص تعيين وليّ عهد جديد. في هذه المرة، تجاوز الملك عبد الله هيئة البيعة تمامًا فقام بتعيين شقيقه الأمير سلمان، وهو الملك الحالي، وليّا للعهد مباشرة دون احترام ما أقرّه بنفسه في نظام البيعة. فكانت المناسبة الثانية التي يتم فيها تهميش الهيئة.

فلم يكن نظام البيعة وصلاحياتها المحدودة الذي هندسه الملك عبدالله كافيًا لتقديم مجرد آلية شكلية يمكن المرور إليها لتمرير مخططاته، فلم يشأ حتى أن يكرّر هذه المرّة الدعوة لاجتماع شكلي لفرض وليّ العهد الجديد. بيد أن عدم دعوة الهيئة للاجتماع كان يستلزم مبرّرًا ولو صوريًّا بالنهاية، وهو ما وجده أمينها العام خالد التويجري حيث برّر ذلك بغياب رئيسها الأمير مشعل عن البلاد بسبب مرضه. لم ينصّ نظام اللائحة على حالة غياب رئيسها، في سلسلة فراغات مثلت منافذ دائمة للتلاعب بنظام الهيئة ولائحتها التنفيذية.

لم يكن الملك عبد الله بالنهاية وهو يؤسس لهيئة البيعة السعودية ويحدد صلاحياتها بعيدًا عن التوازنات داخل العائلة المالكة ومتجاوزًا لسعيه لتعبيد طريق السلطة لنجله متعب، الذي يتولى وزارة الحرس الوطني. تأكدت هذه الترتيبات بإنشاء الملك لاحقًا لمنصب وليّ وليّ العهد لأول مرة في تاريخ المملكة وذلك سنة 2014. وقد تم تعيين أصغر أبناء الملك المؤسّس الأمير مقرن بن عبد العزيز لهذا المنصب المُستحدث، ولم يشر بلاغ القصر الملكي حينها لانعقاد هيئة البيعة مع الاكتفاء بالقول إن التعيين لقي موافقة ثلاثة أرباع أعضائها. ولم يشأ الملك في قراره إلا التأكيد على علوية قراراته حينما أشار أنه "لا يجوز بأي حال من الأحوال تعديل القرار أو تبديله، بأي صورة كانت من أي شخص كائن من كان، أو تسبيب، أو تأويل". وهو تحصين للقرار سرعان ما تمّ تجاوزه بعد وفاة الملك.

وإجمالًا لم يكن وقتها قرار تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز لهذا المنصب، إلا قطع طريق أولّي على الأمير محمد بن نايف، الذي كان يُنظر إليه على أنه الحفيد الأوفر حظًّا من الجيل الثاني للصعود للعرش. فالأمير مقرن ليس صاحب نفوذ داخل العائلة، فوالدته يمنية ولا يتمتع بامتدادات قبلية من جهة أخواله، وهذا عامل محدّد في التوازنات داخل العائلة المالكة. كان يحتاج الملك عبد الله لبعض الوقت لمواصلة تنفيذ مشروعه غير أن الأجل وافاه في السنة الموالية ليصعد الملك سلمان للعرش، ولتكون هيئة البيعة محلّ تفعيل جديد لدورها.

اقرأ/ي أيضًا:

السعودية..الدولة في مواجهة الثقافة

السيسي يغازل إيران..وداع الرياض في سبيل النفط