30-سبتمبر-2020

طفل في المدرسة (Getty)

للترجمة من اللغات الأجنبية العالمية من مختلف المشارب والحضارات والعصور أهداف ثقافية وحضارية وسياسية وقومية عربية مؤثرة في كل النواحي المعرفية عند العرب. فالترجمة، أو ما يطلق عليه اصطلاحًا "التعريب"، عنصر لا غنى عنه من عناصر رفد الشعوب العربية بالمعرفة، وقد مرت حال وأحوال التعريب بمراحل متعددة ومتنوعة منذ بداياتها وحتى اليوم، وحملت معها عناصر سياسية وثقافية وتاريخية لا بد من التوقف عندها، ومن ثمة استشراف الحاضر والمستقبل للبحث في إشكالية: هل التعريب يمكن أن يسد الفجوة المعرفية عند العرب؟

كانت الترجمة من أهم الأدوات التي استخدمها العرب في القرن التاسع عشر من أجل "استرداد الهوية واستعادة الكيان"

ولعل بعض ما في السؤال يوحي بما ستؤول إليه الإجابة، خاصة أن استخدام مصطلح "الفجوة" يرمز إلى وجود أزمة أو نقص أو ثقب في حال الترجمة إلى اللغة العربية، ويشير إلى أزمة معرفية حادة تعاني منها الشعوب العربية حين تتلاصق الفجوة مع المعرفة جنبًا إلى جنب في الإشكالية المطروحة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار مع 3 مترجمين.. في ضباب الترجمة ويأسها

ومما يجب التشديد عليه أن أي ذكر لمشروع نهضوي عربي كان، لا بد من التطرق فيه إلى حضور الترجمة والتعريب كعنصر أساسي في عملية النهضة ووسيلة من وسائل هذا المشروع، فلا نهضة بدون معرفة، لكن هل استطاعت الترجمة أن تلعب هذا الدور؟ وهل بمقدورها لعب هذا الدور في المستقبل! لا يبدو الرهان بسيطًا، بل معقدًا ومتشابكًا وأكثر تشاؤمية لعدة أسباب.

في كتابه "خطاب إلى العقل العربي" الصادر عام 1988 يشرح الكاتب زكريا فؤاد المراحل التاريخية للترجمة إلى العربية فيقول: "منذ القرن الثاني الهجري، اقترن الامتداد الهائل للحضارة العربية الوليدة بحركة تعريب فريدة، تمكنت فيها لغة كانت حتى عهد قريب انعكاسًا لحياة بدوية شديدة البساطة، من التعبير عن أرقى ما وصلت إليه ثقافة اليونان والفرس والهنود في ميادين العلم والفلسفة والآداب والعقائد".

ويشير إلى أن التعريب كان من أهم الأدوات التي استخدمها العرب، في القرن التاسع عشر من أجل "استرداد الهوية واستعادة الكيان"، وبروز حركة تعريب معاصرة واسعة من الرواد العرب تشبه إلى حد ما الحركة التي بدأت في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، من القرن الثاني للهجرة. وبالرغم من هذا التقارب إلى أن حركة التعريب بين القديم والحديث تتميز تمايزًا كبيرًا ولكل حركة زمنية سماتها الفريدة.

ويرى زكريا أنه: "من المشكوك فيه إلى حد بعيد، في ضوء الظروف التي تسود حياتنا المعاصرة، أن تؤدي حركة التعريب في الوقت الراهن دورًا مماثلًا، أو حتى مشابهًا، لذلك الذي أدته في العصر الزاهي للحضارة العربية". ويضيف عدة ملاحظات يجب أخذها بعين الاعتبار في حال تمت المقارنة بين حركتي التعريب القديمة والمعاصرة:

1- حركة التعريب في العصور القديمة كانت تعريبًا لنتاج ثقافي ينتمي إلى حضارة كانت قد توقفت عن العطاء: المؤلفات اليونانية التي تنتمي إلى القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الأول والثاني بعد الميلاد. في الوقت الذي كانت فيه الحضارة العربية في أعلى إنتاجاتها الثقافية وبروز عصر الترجمة العربية بعد مضي أكثر من 500 عام على انطفاء الحضارة اليونانية. فالترجمة العربية حين بدأت بتعريب المؤلفات اليونانية التي كانت قد صارت "تراثًا ساكنًا" كما يشير زكريا فؤاد. وهو تراث لم يكن قابلًا للتجدد، بينما كانت الثقافة العربية يافعة منطلقة، كمًا وكيفًا، وثقافة آخذة في التمدد بكل المقاييس.

2- وأما عن حركة الترجمة المعاصرة فيقول: "أما اتصالنا المعاصر بالحضارة الغربية وسعينا إلى تعريب نواتجها، فهو اتصال بحضارة دائمة التغير، تتخذ في كل يوم موقعًا جديدًا، وتفاجئنا دائمًا بتحولات وثورات غير متوقعة في ميادين العلم والفكر والأدب".

3- معيار ثالث جوهري في المقارنة يتمثل باختلال موازين القوى بين الحضارة العربية وبقية الحضارات تبعًا للعصر ويشير الكاتب إلى ذلك بالقول "حدثت حركة التعريب القديمة في إطار تفوق عربي شامل، كانت فيه الشعوب التي نقلنا ثقافتها قد تدهورت، ولم يكن واحد منها ندًا للأُمة العربية، ولا جدال في أن حركة التعريب التي تتم في ظل السيادة والتفوق، تختلف كل الاختلاف عن تلك التي تتم في ظروف التراجع والانهزام".

يشك فؤاد زكريا أن تؤدي حركة التعريب الراهنة دورًا مماثلًا لذلك الذي أدته في العصر الزاهي للحضارة العربية

وبرأيه، انقلبت الأدوار بين الماضي والحاضر، فصار العرب في هذا العصر هم أصحاب التراث الثابت الجامد المحدد والمتوقف عن النمو والتجدد والعطاء، وأصبحوا هم، أي الغرب، أصحاب الحضارات القافزة إلى الأمام بعنفوان وقوة وطموح ومرونة مستمرة. فما الذي يترتب على هذا الانقلاب في الأدوار؟

اقرأ/ي أيضًا: الترجمة ما بعد الكولونيالية

هذه الظروف تحدد الموقف الراهن وتشكل الفوارق الهامة، فلا يمكن مقارنة هذه المرحلة بمرحلة الدولة العباسية على سبيل المثال لا الحصر ففي في هذا العصر يصنع الغربيون النتاج العلمي والفكري والتكنولوجي، وهم من يقودون دفة المستقبل.

ومن المعيقات التي تواجه عملية التعريب تأتي عدة نقاط منها:

طبيعة ما يتم تعريبه تقتصر على المواد من مستويات التعليم العام والتعليم الجامعي والنتاج الأدبي والفلسفي، فيما لا يمتد إلى مستويات عليا من البحث العلمي المتخصص والتكنولوجي وسواه. وتكمن الأسباب إما في: منع وصول هكذا ترجمات إلى القارئ العربي، أو في صعوبة التصدي إلى الميادين العلمية من قبل المترجمين العرب، أو في غياب المنظمات العربية والدعم المؤسسي العربي لنقل هذه المعارف العلمية، أو لعدم اهتمام القارئ العربي، أو عدم تخصصية العرب في هذه المجالات.

والنقطة الثانية تكمن في أن ما يتم إنتاجه يعتبر من الناحية الكمية هائلًا ويستوجب عملًا عربيًا مضنيًا، فيما هناك شك في إمكانية نجاح أي جهود عربية مهما كانت الإمكانيات مسخرة لذلك! والسبب يعود إلى أن الأزمة استفحلت حتى صارت نوعية وليس كمية، أي أنها أصبحت ذات سياق بنيوي وأي علاج للأزمة في مكان أخر غير البحث والتطرق في المسألة البنيوية عند العرب وموقفهم وموقعهم في العالم المعاصر لن تثمر أي حلول ذات قيمة.

كذلك تلعب اللغة بكونها الحاضنة لعملية الترجمة والتعريب دورًا هامًا في البحث في أصل الأزمة. فاللغة العربية في تراجع مستمر وتدهور مستمر وتفسخ مستمر. فهناك مئات اللهجات العربية العامية، فهل نقول عن هذه اللهجات بأنها لغة عربية؟! وفي كل عام يتدفق كم هائل من التعابير والمصطلحات الجديدة، وهذه المفردات والمصطلحات ليست نتاج الفراغ، بل نتاج الصناعة العلمية والبحث العلمي في الغرب. فمن يخترع ويصنع، يختار ويحدد مصطلحات ومفردات ما اخترعه وصنعه، ثم تطغى العولمة بعد ذلك بثقلها لفرض هذه المصطلحات في ظل غياب البديل العربي المناسب.

الميزانيات المرصودة للبحث العلمي في العالم العربي نسب مختلفة، ولا تتعدى الـ1% في أغنى الدول العربية!

كما يجب دومًا الأخذ بعين الاعتبار "السرعة والتسارع" في التطور الحضاري للشعوب، وما ينتج عنهما من تباطؤ وتخلف لشعوب أخرى، فكلما ازدادت سرعة العصر، وزادت سرعة الإنتاج المعرفي العلمي والتكنولوجي عند شعب ما، كلما أدى ذلك، في المقابل، إلى تخلف الشعوب الأخرى عن اللحاق بالركب الحضاري المعرفي بوتيرة تفوق بأشواط التقدم الحاصل لأن الفجوة تتسع باضطراد، والاتساع في الفجوة المعرفية لا يتم فقط لناحية التقدم إلى الأمام، بل يرافقه جمود وتراجع إلى الوراء. أي أنها عملية ذات اتجاهين متعارضين.

اقرأ/ي أيضًا: لطيفة الزيات تروي قصة بدايات حركة الترجمة في مصر

وفي كل يوم تتراكم خبرات الغرب وتطرق مواضيع جديدة ميادينهم العلمية فيما تفوت العرب تجارب وخبرات لم يخوضوا غمارها بل كانوا ثابتين في موقع الملتقي فقط لا غير دون أخذ المبادرة والفعل. ويمكن ملاحظة ذلك في دليل اليونيسكو للثقافة في عام 2015 حيث تشير الورقة الدراسية إلى نسبة الميزانيات المرصودة للبحث العلمي في العالم العربي، وهي نسب مختلفة ولكنها لا تتعدى الواحد في المائة في أغنى الدول العربية!

وفيما صارت معظم إنتاجاتنا تفتقر إلى الإبداع وتنبعث منها روحية النقل والتقليد والتلخيص لما ينتجه الغرب كما لو كان نتاجها الخاص! مما يدل على غياب القدرة على إنتاج أي ثقافة قومية مميزة وفريدة ومعتدة بذاتها ولها خصائصها وكيانها الأصيل. وهكذا ينتج عن هذه الحالة جو عقلي وثقافي عديم القدرة على الابتكار والإبداع ويعيد ترديد ما قاله الغربيون وما صنعوه. وفي هذه الحال تنقلب الآية ويؤدي التعريب إلى حالة من التدهور الثقافي، وإلى مزيد من الاعتماد على الثقافات الأجنبية.

ويضاف إلى كل ذلك، أهمية دراسة القدرة لدى القراء العرب على فهم اللغات الأجنبية والقراءة بلغات العالم وهي نسبة متدنية مما يترك القارئ العربي تحت رحمة ما يصدر له من قبل دور النشر العربية، دون أي دراسة وبحث حول أهمية ومضامين والنتائج المتوخاة مما تتم ترجمته.

ناهيك عن جودة ما تتم ترجمته، ويمكن الاستدلال هنا إلى إشكالية ترجمة ميادين مثل الفلسفة وعلم النفس والذكاء الاصطناعي التكنولوجي، واتساع تقدم هذه المدارس العلمية والفكرية في أمريكا وأوروبا، فيما خطواتنا في هذه المجالات تبدو أقرب ما تكون إلى طفل يحبو. وكل ذلك مرده إلى إخفاق السياسات التعليمية والتنموية والديموقراطية في العالم العربي وطغيان الاستبداد الذي جلب بدوره الاستعمار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

دنيس جونسون ديفز وذكرياته في الترجمة

الترجمة في اللغة الكرديَّة.. محاولة ردم الهوّة المعرفيَّة في زمننا الرّاهن