27-أغسطس-2020

معسكر اعتقال للاستعمار البريطاني في كينيا

عندما نتحدّث عن الترجمة في الدراسات ما بعد الكولونيالية نعرف أن ليست التفاصيل التقنية للترجمة هي المهمة، أو هي المقصودة أصلًا، بل سياسات الترجمة. منظرو ما بعد الكولونيالية يرون أن خروج المستعمِرين المباشر من البلدان التي استعمروها، كان بمثابة خروج من النافذة، وقد أبقوا الباب مفتوحًا على مصراعيه لإبقاء هذه البلدان تحت سيطرتهم الّلغوية والثّقافية، وقد تحولت إلى بلدان مصابة بعقدة الكولونيالية وعقدة المستعمِر، حتى فقدت الثقة بإمكانياتها، وبقيت دائمة اللجوء إلى ما ينتجه المستعمِر المباشر السابق، واللغوي والثقافي الحالي، على أنه فردوسها المفقود.

كما استُخدمت الترجمة ذلك الاستخدام القمعي والإمبراطوري، فقد استُخدمت، أيضًا، في مناهضة القمع والاضطهاد

تبدو الترجمة،  في تلك الدراسات بمثابة أداة للسيطرة الإمبراطورية، وأنها اتخذت وظيفة أقرب لأن تكون مساعد استعمار، بدلًا من كونها عميلة تحرر وحوار. لقد بين إريك تشيفيتز في كتابه "شعرية الإمبريالية" كيف أن المستعمِرين كبتوا الصراعات السياسية المتأصّلة في لغتهم ثم أسقطوها خارجًا على العلاقة بين اللغات، ورأى أن لغة المستعمِرين ولغة المستعمَرين ليستا مختلفتين وحسب، بل مختلفتين على نحوٍ تراتبي وتقفان على طرفي نقيض من سلم التطور. وقد بيّنت الكاتبة الهندية تيجاسوينى نيرانجانا، إحدى أكبر منظّري الترجمة ما بعد الكولونيالية، في كتابها "موقع الترجمة"، كيف استدعى البريطانيون الهنود بوصفهم أدنى من خلال ترجمتهم القوانين الهندية والأدب الهندي إلى الإنجليزية. أمّا فايسنت رفاييل فقد استكشف في كتابه "الإصابة الكولونيالية" العلاقات المتبادلة بين الهداية والفتح والترجمة والاعتراف، مبيّنًا كيف تصوّر الإسبان اللغات الثلاث ذات الصلة بوصفها مرتّبةً على نحو هرمي بدءًا من اللاتينية في الأعلى (أقرب إلى الله)، مرورًا بالقشتالية، لغة الإمبراطورية، وصولًا إلى التاغالوغية في الأسفل (أبعد إلى الله) أما الترجمة فتسير من الأعلى إلى الأسفل، تغدو أصعب كلما ابتعدت، لأنّه كلما ابتعدت لغتها وثقافتها عن الله، قلّت ملاءمة مفاهيمها للحقيقة المسيحية.

اقرأ/ي أيضًا: 4 كتب أساسية عن الاستعمار الاستيطاني

تقدّم هذه الملاحظات أدلّة على أن الترجمة قد استُخدمت، بالفعل، كأداة للسيطرة الكولونيالية. لكنّ منظري الترجمة ومؤرّخيها ما بعد الكولونياليين لا يقتصرون على تبيان هذا الجانب فحسب، بل يستكشفون أيضًا الطرائق التي استُخدمت بها الترجمة، والطرائق التي ينبغي أن تُستخدم لمقاومة القوة الكولونيالية أو ما بعد الكولونيالية أو إعادة توجيهها. ففى خاتمة كتابه "اللاوعي السياسي" يلحّ فريدريك جيمسن على ضرورة الحفاظ على ديالكتيك سليم بين التحليلات السلبية أو "الأيديولوجية" التي تقتفي آثار عمل الأنظمة القمعية المتعددة ووجهات النظر الإيجابية أو "الطوباوية" التي تستكشف سبل الأمل من أجل المستقبل.

يرى الكاتب دوغلاس روبنسون في كتابه "الترجمة والإمبراطورية" أن الترجمة كما استُخدمت ذلك الاستخدام القمعي والإمبراطوري، فقد استُخدمت، أيضًا، في مناهضة القمع والاضطهاد، وفي تحرر العقول والأجساد. ويضرب على ذلك أمثلة كالهندية نيرانجانا التي تدافع عن ممارسة تحويلية تدعوها "إعادة الترجمة"، وتعني بذلك تلك الترجمة الجديدة جذريًا لنصوص الشعب الهندي وسواه من الشعوب بطرائق تسعى إلى دفع عملية تصفية الاستعمار الجارية قدمًا، ليس باجتثاث الآثار الثقافية التي خلّفها حضور المستعمِر، بل بتحويل هذه الآثار وإعادة تأطيرها. وتسير نيرانجانا على خطى والتر بنيامين فتتصور مشروع إعادة الترجمة هذا على أنه مشروع تزداد إنتاجيته كلما ازدادت حرفيّته؛ أي كلما بقى أقرب ما يمكن إلى النصّ الأصلي.

ويعمل رفاييل، بدوره، على الإقامة في ذات أسلافه التاغالوغ وهم يحاولون فهم الفتح الإسباني والهداية المسيحية المرافقة له، مبيّنًا كيف قادتهم الجهود التي بذلوها في بناء إطار تفسيري لظهور هؤلاء الأجانب إلى سلسلة من أنواع سوء الترجمة المراوغ  للكلمات والعبارات والممارسات الثقافية الإسبانية كممارسة الهداية. وهكذا غدت الترجمة بالنسبة إليهم قناة فاعلة للبقاء الثقافي عبر التكيّف والمقاومة.

تبدو الترجمة ليست مجرد حركة في نقل نص من لغة إلى أخرى، بل مشروع: إما في الاحتواء أو في التحرر

كذلك استكشفت الباحثة المصرية في مجال الترجمة سامية محرز الطرائق التي اعتمد فيها كتّاب محدثون في شمال أفريقيا الفرانكفونية على طبعات مهجّنة من الفرنسية والعربية، بل دفعوا تلك الهجنة إلى أبعد، بغية تحطيم تراتبيّات القوة الكولونيالية بين الفرنسية والعربية ولغات محلية أخرى متعددة.

اقرأ/ي أيضًا: كاريكاتير من زمن الاستعمار

يبين الكاتب دوغلاس روبنسون في كتابه المذكور طرائق ما يسميه "المقاومة" التي أبداها بعض المنظرين ما بعد الكولونياليين في تحويل الترجمة من كونها مساعد استعمار إلى كونها عامل تحرر وحرية وحوار وتشاركية. ولا يفقد الأمل في تصفية آثار الكولونيالية عبر الأمثلة المقاوِمة التي استند إليها على أنها كفيلة بذلك. هكذا، تبدو الترجمة ليست مجرد حركة في نقل نص من لغة إلى أخرى، بل مشروع: إما في الاحتواء أو في التحرر، وهذا يتوقف على السياسات التي تتبعها هيئات الترجمة في العالم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رينيه ماران.. أولى الصرخات الأفريقية في وجه الاستعمار

كاميرا الاستعمار