06-يناير-2022

(Getty Images)

ألتراصوت- فريق الترجمة 

بعد فترة طويلة من الاحتضان والاستيعاب، بات قادة الاتحاد الأوروبي يستشعرون أخيرًا خطر رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، ويعدّونه تهديدًا وجوديًا لتكتّل سياسي يقدّم نفسه للعالم كمثال لاحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

على مدى عقد كامل، انطلق أوربان بكل ثقة لبناء دولته "اللاليبرالية"، كما يصرّ هو على التبشير بها، مستفيدًا في مشروعه هذا من التدفّق السخيّ للأموال من الاتحاد الأوروبي

فعلى مدى عقد كامل، انطلق أوربان بكل ثقة لبناء دولته "اللاليبرالية"، كما يصرّ هو على التبشير بها، مستفيدًا في مشروعه هذا من التدفّق السخيّ للأموال من الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من الشروخ التي أحدثها مشروع هذا الرجل في الاتحاد الأوروبي، الذي انضمت إليه هنغاريا في 2004، فإن قادة الاتحاد اكتفوا بتجاهل ما يحصل في تلك الدولة الصغيرة، والالتزام بعدم التدخّل بشؤونها الداخلية.

غير أن لتمرّد أوربان وعناده عواقب هامّة، وإن لم تكون مقصودة، وهي أن سلوكه قد يحفّز الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف إلى اتخاذ خطوة جريئة ما دفاعًا عن المبادئ الديمقراطية التي قام بالأساس لتكريسها والدفاع عنها. 

فمن المقرر خلال الشهر الجاري أن يصدر عن محكمة العدل الأوروبية قرارًا مفصليًا بشأن تقرير سلطة الاتحاد الأوروبي في ربط الدعم المالي للدول الأعضاء بالالتزام بالقيم الجوهرية التي يقوم عليها الاتحاد. وفي حال إقرار ذلك، سيكون بوسع بروكسل أن تمنع تدفق مليارات اليوروات إلى دول داخل الاتحاد في حال ثبوت انتهاكها لهذه القيم.

لقد حرص الاتحاد الأوروبي على بناء التوافق السياسي بين قادة الدول الأعضاء في الاتحاد، غير أن أوربان قد دفع بروكسل إلى مربّع لطالما تجنبت الوصول إليه، يقتضي فرض عقوبات مالية على بعض الدول الأعضاء، بدل الاكتفاء بالعقوبات السياسية.

هذا التوجّه الجديد قد يجدي نفعًا في حل المشكلة، مشكلة بروز قادة سيئين مثل أوربان في صفوف الاتحاد، غير أنّه يخلق مشاكل من نوع آخر، بإتاحة المجال للمفوضية الأوروبية، وهي الذراع التنفيذية للاتحاد، بممارسة مستوى جديد من التدخل في شؤون الدول الأعضاء.

لكن فلنعد الآن خطوة إلى الوراء لنفهم كيف وصلنا إلى هذه النقطة في حالة الاتحاد الأوروبي، وكيف أن عجز قادة الاتحاد عن الوقوف في وجه أوربان بحزم يعرّي الكثير من الافتراضات التأسيسية لهذا الاتحاد نفسه، الذي يبدو أنه بدأ يتعثّر الآن أمام عقبات الخطاب الشعبوي والقومي المتطرّف في عواصم أوروبية عدة.

تكشف المقابلات مع عديد المسؤولين الأوروبيين السابقين والحاليين عن صيرورة المواقف والانطباعات إزاء أوربان ومشروعه المناهض لليبرالية، وهي مواقف بدأت من التواطؤ وضعف التقدير، حتى انتهت اليوم إلى الموقف الحالي الذي بدأ يرى في الرجل تهديدًا حقيقيًا داخل أوروبا، على الرغم من أن عدد سكان هنغاريا كلّها أقل من ساكنة باريس وضواحيها، ولغتها الفريدة التي لا تربطها أية علاقة مع لغات دول الجوار.

هذا التغاضي المقصود عن الحالة الأوربانية يُختزل بشكل دقيق بواقعة صغيرة عام 2015، في اجتماع في المفوضية الأوروبية، حضرت فيه جين كلاود جنكر، الرئيس السابق للمفوضية، والذي قال حين رأى أوربان مقبلًا: "ها قد أتي الدكتاتور"، وذلك قبل أن يرحب به قائلًا: "أهلا بالدكتاتور"، ويرفع يده إلى وجهه في لفتة ودودة كما يحصل بين الأصدقاء.

 

لم يرغب أيّ من قادة الاتحاد مواجهة أوربان حول قضايا سيادة القانون أو الفساد أو حقوق الإنسان وحرية الصحافة، وبالأخص زملاؤه من الزعماء على رأس دول أخرى داخل الاتحاد، والذي لكلّ منهم مقعد في الاتحاد الأوروبي المهيب.

يؤكّد على ذلك ما قاله لووك فان ميديلار، الذي عمل مساعدًا لهيرمان فان رومبوي أثناء فترة رئاسته للمجلس، والذي اعترف بأنه استشعر ذلك "التردد" بين أقران أوربان من زعماء الاتحاد، وتفضيل عدم إثارة مثل هذه القضايا. وأضاف ميديلار بأن المجلس "كان أشبه بالنادي، وفيكتور كان أحد أعضائه. الجميع في هذا النادي حيوانات سياسية، كلٌّ منهم يحترم الآخر لمجرّد أنّه قد فاز بانتخابات". ويؤكّد ميديلار: "لا يفضّل الزعماء التطرق إلى قضايا شائكة حين يكون بوسعهم صرف النظر عنها".

سيكن السيّد أوربان أمام استحقاق انتخابي ربيع هذا العام، يواجه فيه كتلة من أحزاب المعارضة المتشظّية، في وضع بات فيه الممثّل الذي لا يضاهى لسياسات الهويّة والدين، والذي لا يقتصر تأثير خطابه على أوروبا، ولاسيما عند حلفائه الأقرب في بولندا، بل ويمتدّ بعيدًا عبر الأطلسي، إلا الولايات المتحدة.

فيوم الإثنين الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن دعمه "الكامل" لإعادة انتخاب أوربان، وكأنّه يردّ له الجميل اليوم، لقاء دعم الأخير له عند ترشحه في انتخابات عامي 2016 و2020، حين أعرب أوربان غير مرّة عن تأييده الكامل لترامب وأمله بفوزه، قائلًا في أحد الخطابات: "هنالك على الأرجح شبه بيني وبين السيد ترامب، فكلانا مثير للجدل قليلًا، لكن لا بأس في ذلك".

غير أن بعض المشرّعين في أوروبا قد التفتوا مبكرًا إلى أثر أوربان في تقويض مبادئ الديمقراطية، وعبروا عن قلقٍ أصرّ على تجاهله الزعماء السياسيون في الاتحاد، وخاصة أولئك الزعماء الذين ينتمون إلى كتلة "حزب الشعب الأوروبي"، الذي يمثّل التكتّل السياسي على يمين الوسط، والذي حاز على نفوذ وسيطرة داخل الاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي.

ومن بين الزعامات المحافظة التي وفرت الحماية لأوربان، المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل. وأحد أسرار هذا التواطؤ الألماني مع أوربان، هو الاستثمارات الكبرى للشركات الألمانية في هنغاريا، واتخاذ ميركل أوربان حليفًا لها في بروكسل. أحد الأعضاء البارزين في حزب الشعب الأوروبي كشف بكل وضوح كيف أن ميركل وبعض مساعديها عمدوا مرارًا إلى التهوين من الشكاوى المتزايدة حول السياسات التي ينتهجها أوربان، مسوّغين ذلك بضرورة الحفاظ عليه "ضمن البيت الأوروبي".

روي تافاريس، وهو مشرّع سابق في الاتحاد الأوروبي وأحد المشاركين في صياغة تقرير حول انتهاكات الإدارة الهنغارية، قال معلقًا على ذلك: "أكبر إخفاق على الإطلاق، وهو الإخفاق الذي ما نزال ندفع ثمنه حتى اليوم، هو المجلس الأوروبي. هذا المجلس لم يفعل شيئًا".

حين اقترح أوربان عام 2011 دستورًا جديدًا لبلاده، حاول ديديه رينديرز، وزير الشؤون الخارجية والأوروبية البلجيكي حينها، أن ينبّه إلى مغبّة تمرير هذا الدستور لما فيه من مواد تتعارض مع القيم العام للاتحاد الأوروبي، إلا أن اعتراضاته قوبلت بالتجاهل، وهو ما ضمن لأوربان وحزبه إقرار الدستور الجديد بلا قلق،بعد أن أدرك أن التدخّل في تلك القضيّة لا يعني الدول الأعضاء، وأن المسألة من اختصاص المفوضية، أو المحكمة الأوروبية.

إيفان كراستيف، وهو محلل بلغاري مختص بالشؤون الأوروبية، قال إن السيد أوربان كان حريصًا على مدى سنوات بعد انتخابه عام 2010 على تجنب تجاوز الخطوط الحمراء لدى الاتحاد الأوروبي، لكنه حرص على الرقص حولها، "رقصة الطاووس" على حدّ تعبيره.

يجادل كراستيف بأن العديد من القادة الأوروبيين قد افترضوا بأن الدول التي انضمت إلى الاتحاد عام 2004 ستكون ممتنّة لهذا الإنجاز وتتعهد بأن تكون شريكة إيجابية، إلا أنّهم لم يروا كيف أن دولًا مثل هنغاريا وبولندا والتشيك قد دخلت إلى الاتحاد وهي تحمل قناعة بأن عليها أن تؤكّد على هويّتها وتفرضها، وأن تشاكس بروكسل، كلّما سنحت الفرصة لذلك. 

لقد تبنى حزب أوربان دستورًا جديدًا وقانونًا جديدًا ناظمًا لوسائل الإعلام فيه انتهاك للحريات الصحفية، كما أقدمت حكومة أوربان على تغييرات واسعة في نظام القضاء، حيث تم التخلص من رئيس المحكمة العليا في البلاد، وإنشاء مكتب خاص للإشراف على المحاكم ترأسه زوجة إحدى الشخصيات البارزة في الحزب الحاكم. أما قوانين الانتخاب فقد أعيدت صياغتها لصالح الحزب.

لقد كان العامل الخارجي في صالح أوربان أيضًا، ولاسيما عام 2015 مع اندلاع أزمة اللاجئين على حدود أوروبا، بالتزامن مع وصول حزب القانون والعدالة اليميني للحكم في بولندا، ليكون حليفًا لهنغاريا، متخذًا مواقف متشددة ضد اللاجئين، نالت استحسان آخرين أيضًا ضمن الاتحاد الأوروبي.

يقول مارك لينارد، رئيس المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "ما أطلق العنان لأوربان هو العام 2015 وأزمة اللاجئين.. فجأة شعر أوربان بأنه لا يمثّل هنغاريا وحسب، وأن قضيّة اللاجئين ستضمن له الدعم من ألمانيا والنمسا وغيرها من دول أوروبا الوسطى، وقد أمدّه ذلك بالحصانة".

ثمة نقطة تحوّل لافتة أخرى، في أيار/مايو 2018، حصلت في اجتماع بين أوربان وقادة من حزب الشعب الأوروبي، هما جوزيف داول، رئيس الحزب، ومانفرد فيبر، من الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني، الذي ترأس سنتها البرلمان الأوروبي.

في ذلك الاجتماع، تمّ تحذير أوربان بلهجة شديدة، وتهديده بطرد حزبه من الكتلة. غير أن أوربان، الذي كان منتشيًا بنصر انتخابي قبل أسابيع معدودة، ردّ على هذا التهديد بكل ثقة، ووفق مسؤول مطّلع على مجريات اللقاء، قال لهما: "في حال حاولتم طردي، سأدمّركم".

ليس هنالك في الاتحاد الأوروبي حاليًا ما يهدّد أوربان ولا هنغاريا في حال نكصت عن المبادئ التي يدّعي الاتحاد تمثيلها والدفاع عنها، وهذا ما يبعث على الاطمئنان لدى أوربان وأمثاله. فحتّى معاهدة لشبونة، والتي تمنح البرلمان الأوروبي سلطات وصلاحيات موسّعة، لا تشتمل سوى على أداة واحدة غير قابلة للتطبيق عمليًا، وهي المادة السابعة التي تحرم الدولة العضو من حق التصويت، لكن بشرط حصول القرار على موافقة بالإجماع.

حصل ذلك عام 2017، حين دعا فرانس تيمرمانز، نائب رئيس المفوضية الأوروبية الأول لشؤون سيادة القانون، إلى تفعيل المادة ضد بولندا، وهو ما تكرّر عام 2018 ضد هنغاريا، لكن النتيجة كانت محسومة، وذلك لأن كلّا من البلدين يحمي أحدهما الآخر، ففشل القرار لعدم التصويت عليه بالإجماع.

كما تمنح المعاهدة المفوضية الأوروبية ملاحقة الدول الأعضاء قضائيًا في حال انتهاك القانون الأوروبي، غير أنّ ذلك يتطلب عملية طويلة معقدة من المخاطبات والردود والاستئنافات، قبل أن تصل القضية إلى المحكمة الأوروبية للعدالة، ونادرًا ما يحصل ذلك.

وتكشف دراسات قام بها كلّ من آر دانيل كيلمان من جامعة روتغيرز، وتوماسو بافوني من جامعة أوسلو، أن المفوضية قلّصت بشكل كبير من ملاحقاتها القانونية ضد مخالفات الدول الأعضاء، وذلك منذ العام 2004، بعد انضمام دول جديدة للاتحاد. أما مسوّغ ذلك، كما يكشف الرئيس السابق للمفوضية، مانويل باروسو، هو تشجيع الدول الجديدة في الاتحاد على التعاون بشكل أكبر، بعيدًا عن التهديد بمقاضاتها".

لكن المواقف قد بدأت تتغير مجدًدًا، حيث طفت مسألة أموال دافعي الضرائب ومصارفها، وميزانية الاتحاد الأوروبي طويلة الأجل، واستمرار التجاهل للقيم المشتركة من قبل أوربان في هنغاريا وكاتشينسكي في بولندا، وهو ما قد يدفع بروكسل للتحرّك أخيرًا، إذ قد يجد الاتحاد الأوروبي وسيلة مجدية للتأثير في السياسات الداخلية للدول الأعضاء، عبر المزج بين الدعاوى القضائية والعواقب المالية القاسية.

الجميع ينتظر اللحظة الحاسمة هذا الشهر، عندما تصدر محكمة العدل الأوروبية قراراتها.

الجميع ينتظر اللحظة الحاسمة هذا الشهر، عندما تصدر محكمة العدل الأوروبية قراراتها

بيد أنّه يصعب في حال خسرت هنغاريا وبولندا القضية، وهو السيناريو الأرجح، تقدير ما الذي سيترتب على البلدين لو رفضتا الالتزام بقرارات المحكمة. حينها، سيغرق الاتحاد الأوروبي أكثر في دوّامة مجهولة المعالم.

*نيويورك تايمز

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عزمي بشارة عن الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية

في راهنية التحوّل السلطوي