13-ديسمبر-2018

الفنان نضال سيجري (فيسبوك)

لماذا نستعيد نضال سيجري الآن؟ سؤال سوف يُطرح، دون شك، بكثرة عند قراءة هذا المقال. لا سيما وأن ذكرى وفاة الراحل، وولادته أيضًا، مرّت منذ عدّة شهورٍ مضت، بمعنى أن لا علاقة لما كُتب هنا بوفاته أو ولادته. لربّما نستعيد نضال سيجري لسببٍ واحد، هو إعادة سرد أجزاءٍ من محطّات وتجارب الراحل بهدف استعادة دراما سورية مفقودة في الوقت الراهن، بعد أن سار بها البعض إلى الانحطاط والانحدار بصورةٍ مؤسفة، وأقرب إلى المأساة. هكذا تكون استعادة الراحل بابًا لاستعادة دراما أصيلة، دون أن يعني ذلك أنّ لا أعمال سيئة كانت موجودة آنذاك. واستعادة سيجري تأتي في وقت بات السعي فيه نحو الشهرة مرتبطًا بالولاء للأنظمة القمعية الحاكمة والتقرّب منها، وتطبيق ما تفعلهُ تلك النظم ضدّ شعوبها، على الفنّانين الآخرين.

استطاع نضال سيجري يحسّه الفطري الساخر أن يحمّل نكاته فلسفته الخاصة

بعيدًا عن التمثيل، ومن بين الأشياء الكثيرة التي اشتُهِر بها نضال سيجري أنّه كان ميّالًا إلى النكتة. أو، كما يُقال شعبيًا، كان الراحل صاحب نكتة، يوظِّف نِكاتهُ في غير مكانها الطبيعيّ. بهذا المعنى، لم تكن نكات سيجري نكاتًا عادية أو سمجة أو مكرورة. ولم تكن تُلقى أو تُحكى على مسامع الآخرين لغرض الضحك وغيره، أو من باب "تلطيف الجو" كما كان يردِّدُ في "ضيعة ضايعة". نِكات سيجري كانت تحمل أبعادًا إنسانية بحتة، متجاوزةً الحدود الطبيعية والتقليدية إلى ما هو أسمى من ذلك كلّه، وأرفع قيمةً ومكانة. ومن بين جملةٍ من النكات التي حكاها سيجري للآخرين طيلة حياته، هناك واحدة قُدِّر لها أن تُعاد وتُحكى مجدَّدًا بعد أن توفّي. دون أن نعرف حقًّا إذا ما كانت نكتةً أم غير ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: في برنامج "في أمل".. دريد لحام خائن لضميره

ديمة ونوس، ابنة الكاتب المسرحيّ الراحل سعد الله ونوس، تروي في مقالٍ لها كُتِبَ بمناسبة وفاة نضال سيجري، صديق عائلتها، حكايةً طريفة ومأساوية في آن معًا، بطلها الفنّان الراحل وخفّة دمّه التي تتحوّل إلى طوق نجاةٍ في أشد الظروف سوءًا، دون أن تكون قلّة احترام لمُصاب الآخرين، أو استخفافًا بما حلّ بهم.

ديمة ونوس تروي في مقالها هذا حكاية صديقةٍ لها توفّي زوجها في حادث سير، دون أن تعرف، ونوس ومجموعة من الأصدقاء بما فيهم سيجري، كيف يخبرونها بالأمر، ليقترح سيجري فكرةً أقرب إلى نكتة، كان من شأنها لو نُفِّذت أن تحوّل الخبر المؤلم إلى نكتة، أو على الأقل، تُخفِّف من وطأته. بهذا المعنى، وبشهادة عددٍ من أصدقائه وممن عرفوه، كان نضال سيجري، مدفوعًا بإنسانيته، يُخفِّف من وطأة كلّ ما هو سيئ على من هم حوله، أكان الأمر مرضًا، أو حزنًا، أو حتّى من وطأة الموت أيضًا.

لو كان مُتاحًا للراحل نضال سيجري أن يقف طيلة سنوات عُمرهِ على المسرح، لما غادرهُ إطلاقًا. الوقوف على الخشبة عندهُ كان يختلف كُليًّا عن الوقوف أمام الكاميرا. هناك شيء ما مُختلف في الأمر، لا يُدرك جوهرهُ سواه. ولا أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بالحنين والنوستاليجا وغيرها من الأمور المُشابهة إطلاقًا. الموضوع، ببساطةٍ شديدة، أنّ نضال سيجري كان شغوفًا، أو مهووسًا بصورةٍ أدق، بالمسرح. لذلك، كان الأخير، أي المسرح، الجزء الأهم من حياته الفنية، وإن كان قد تألّق أيضًا تلفزيونيًا.

نضال سيجري في دور أسعد خرشوف. كاريكاتير لـ عبد الحليم حمودة

في هذا السياق، لا بدّ من استعادة واحدةٍ من أهم المسرحيات في مسيرة نضال سيجري، وهي "حمّام بغدادي" من إخراج العراقيّ جواد الأسديّ (2006). استعادة هذه المسرحية دون سواها، والتوقّف عندها تحديدًا، مُتعلِّق بجملةٍ من الأمور والأسباب التي تُبرهن على القيمة الفنّية العالية للفنّان الراحل. ولعلّ أوّل ما يجب التوقّف عندهُ مطوّلًا، قبل أي شيء آخر، والإشارة إليه بشكلٍ جدّي أيضًا، كما ينبغي، هو أنّ النصّ المسرحيّ كان عراقيًا بامتياز. نتحدّث هنا عن الثقافة واللهجة والمأساة أيضًا. ويُمكن القول إنّ نضال سيجري آنذاك، كان قد وطأ نصًّا جاءهُ من ثقافةٍ ولهجةٍ مُختلِفتين. عدا عن المأساة التي لم يختبرها بصورةٍ مُباشرةٍ قط.

هكذا، بهذا المعنى، كان على نضال سيجري أن يؤدّي دورًا لم يسبق أن أدّى واحدًا مُشابهًا لهُ قبلًا: رجلًا عراقيًا يعمل مع شقيقه على سيّارات الأجرة بين عمّان وبغداد. الشقيقان مجيد (فايز قزق)، وحميد (نضال سيجري) وقفا على خشبة المسرح للبوح بتفاصيل جمعتهما وفرّقتهما دائمًا. هذا البوح يكشف عن صراعاتٍ حادّة تدور بين الأخوين، سُرعان ما يتحوّل البوح إلى تصعيدٍ واشتباكٍ مُباشر على المسرح، قبل أن يتلاشى صوت أحدهما، وتحين ما يُمكن تسميتهُ بلحظة التصالح التي تجيءُ بعد فوات الأوان. نضال سيجري كان قد أدّى آنذاك دور (حميد) الذي يكنّ كرهًا لأخيه (مجيد) لكونه عميلًا للاحتلال الأمريكيّ. الأخير بدورهِ كان يكنّ المشاعر نفسها تقريبًا، أضف إلى ذلك مُحاولاته المتكرّرة لإقناع الأوّل بالعمل معهُ أيضًا، في حين يرفض ذلك بشكلٍ قطعيّ.

تماهى نضال سيجري مع شخصية حميد، التي قدمها في مسرحية "حمام بغدادي"، ليحمل ما يحملهُ الأخير من وجعٍ وخيبات، وكأنه صاحبها حقًّا

استعادة "حمّام بغدادي" لا تكتمل إن لم يُستعاد ما كان مميزًا عند عرضها أيضًا. نتحدّث عن الأداء المُبهر للفنّان الراحل آنذاك، وعلاقته المتقدّمة والحميمية أيضًا مع البروفات والتمارين من جهة، ومع الشخصية التي يؤدّي دورها من جهةٍ أخرى. نضال سيجري كان مُتماهيًا إلى حدٍّ بعيد مع شخصية حميد، دون أن يُعطي بالًا بكلّ الاختلافات الموجودة بينهما، والتي تمكّن من إزالتها وتسويتها مُستعينًا لا بما يتمتع به من قدرةٍ ومهارة فقط، وإنّما بإيمانه الشديد بالمسرح دون سواه. هكذا تماهى نضال سيجري مع حميد بصورةٍ تامّة، حاملًا ما يحملهُ الأخير من وجعٍ وألمٍ وخيباتٍ مُتراكمة تجثم فوق صدرهِ، دون أن يكون بالضرورة قد اختبرها شخصيًا، ولكنّهُ، دون شك، كان يعيش كلّ تلك المشاعر معًا، وبصدق، على الخشبة، تمامًا كما لو أنّها تخصّهُ فعلًا. هكذا، بات من الصعب أن يُميّز المشاهد بين نضال سيجري وحميد إطلاقًا.

اقرأ/ي أيضًا: عباس النوري متصالحًا مع أكاذيب غيره

أمّا ما كان ملُفتًا للانتباه عند عرض "حمّام بغدادي" أيضًا، فهو ما أضافهُ نضال سيجري على شخصية حميد التي كان من المُفترض لها أن تكون شخصيةً تحملُ قدرًا كبيرًا من الكآبة والبؤس والسوداوية بفعل كلّ ما حلّ ويحلّ بها من كوارث وأزمات على الصعيد الشخصيّ أو غيره. كلّ ما سبق، حولّهُ سيجري إلى سخرية سوداء مبطّنة بلمساتٍ كوميدية أيضًا. أضف إلى ذلك الإشارات والتفاصيل التي أضفت على حميد البائس إحساسًا يدفعهُ للضحك وإن بمرارة. هكذا، يصير الوصف الأدق لما يفعلهُ نضال سيجري، وكما جاء على لسان جواد الأسدي، أنّه يحوّل اللون الأسود إلى ورديّ.

في سياق حديثٍ كهذا عن الراحل، لا بدّ من استعادة الدور الذي لعبهُ في مسرحية "أرامل على البسكليت" للمخرج جواد الأسدي أيضًا، وهو دور الجدّة التي تعيش برفقة نساء أخريات من نسلها. سيجري جسّد في هذه المسرحية شخصية الأنثى بكلّ ما تحملهُ من مشاعر وقلق وتمزقات وهواجس ومآسٍ وأحلام مؤجّلة وأخرى مضت دون عودة؛ تعامل مع شخصية الجدّة كما تتعامل المرأة مع نفسها تمامًا، متجاوزًا كلّ الثغرات التي من الممكن أن تكشف أنّ من يقف على الخشبة رجلًا وليس امرأة. فعل سيجري ذلك برفقة ممثلات تشاركن معه أداء المسرحية، وهنّ كارول عبود وندين جمعة، دون أن يُتاح لأحد أن يُلاحظ الفرق بين نضال وبينهنّ. المخرج جواد الأسدي وصف ما قام به نضال سيجري قائلًا: لقد نبش دور الأنوثة من أعماقها واستطاع في ذلك أن يُضاهي زميلتيه في المسرحية كارول عبود وندين جمعة بأنوثتهما الحاضرة دومًا.

عدا المسرح، كان لنضال سيجري حضوره التلفزيونيّ المميز أيضًا. الفنّان الراحل شارك فيما يزيد عن 80 مسلسلًا، بأدوار تتراوح بين الأولى والثانوية، دون أن يُعطي موضوعًا كهذا أي اهتمام. فما كان يعنيه، ببساطةٍ شديدة، أن تُتاح له المساحة الكافية لممارسة، لا المهنة التي يحبّ، وإنّما الشغف الذي يأسرهُ دومًا. نضال كان غير معنيًا بالأدوار الرئيسية، ولم يركض يومًا خلفها إطلاقًا. كلّ ما كان يعنيه ويشغله هو أن يقدّم أداءً مختلفًا عن الآخرين، أيًا كان موقعه في العمل. لذلك، ظلّ يركض وراء ما يرضيه كممثل، وراء ما يتناسب مع أفكاره وما يطمح إليه، لا وراء ما يحقّق له الشهرة.

هكذا، كان نضال سيجري حاضرًا في مسلسل "كوم الحجر" بشخصية شابّ فقير يُدعى عبد الرحمن، يعمل كـ "دابّةٍ" عند آغا إقطاعي في ريف حلب، ولا يخرج خارج أسوار القصر، أو بشكلٍ أدق، خارج جدران الحظيرة، حيث يعمل ويأكل وينام. شخصية ثانوية ومهمّشة، قليلة الحضور، ولكنّ الراحل كان على ثقةٍ بأنّها ستظلّ محفورةً في ذهن المُشاهد، لجملةٍ من العوامل والأسباب، من بينها ما كان يضيفهُ لأيّ شخصية يُجسِّدها، بغضّ النظر عن سلوكها داخل العمل، ذلك الذي يُحدِّد عادةً ما إذا كان المُشاهد سوف يتقبّلها أو ينفر منها. نذكر هنا شخصية "الشاويش" في مسلسل "الانتظار"، أشهر المسلسلات السوريّة التي تناولت حال سكّان العشوائيات الفقراء، وواقع الحياة في تلك الأماكن التي تُسمّى بـ "القاع".

ستظلّ شخصية أسعد في مسلسل "ضيعة ضايعة" الأكثر حضورًا في الوجدان العربيّ لا السوريّ فقط

شخصية الشاويش في هذا العمل تقف على النقيض من الخير تمامًا، أو من شخصية عبّود (تيم حسن) الذي صوّر بأنّه روبن هود الحيّ الفقير. بينما مثّل الشاويش الفئة الأكثر شرًّا في تلك الأماكن، أي ما يُسمّى بـالزعران وأصحاب المشاكل أو المجرمين بصورةٍ أبسط. ولكن، من بين كلّ ما جسّده نضال سيجري من شخصيات، ستظلّ شخصية "أسعد" في مسلسل "ضيعة ضايعة" الأكثر حضورًا في الوجدان العربيّ لا السوريّ فقط. شخصية رجل بسيط، فقير، يعيش على صيد السمك وزراعة ما يملكه من أرضٍ حصل عليها من إرث والده. كوميديّ إلى حدٍّ بعيد، دون أن تكون الكوميديا التي يقدّمها مُصطنعة، وإنّما نابعة من البساطة التي وقع اختيارهُ عليها كنمطٍ للحياة والعيش بـ (ضمير ساكن وبال مرتاح)، كما كرّر دائمًا في العمل.

اقرأ/ي أيضًا: نقابة الفنانين في سوريا: مجلس تأديب علني

هذه الشخصية الكوميديا، التي كان يُقاسمها جارها جودة رزق يومها، منحها الراحل كل مهارته وبراعته في التمثيل، وبرهنت مرّة أخرى على قيمة هذا الفنّان الذي تمكّن، من خلال عدّة إشارات وتفاصيل وظّفها بنفسه داخل هذا العمل، أن يُسلّط الضوء على معاناة سكّان المناطق الريفية النائية، تلك التي ليس هناك ما يُفسّر غياب خدمات الدولة عنها، لا سيما وأنّ هناك قُرىً مجاورة تحظى بما لا تحظى به قرية "أم الطنافس الفوقا"، وتغضّ الدولة بصرها عن ممارسات سكّانها، في الوقت الذي تفرض سلطتها على أسعد خرشوف وأمثاله. ومن غير الممكن المرور على هذه الشخصية، دون ذكر أنّها أرهقت نضال سيجري الذي كان يُعاني آنذاك من سرطان الحنجرة، ورغم ذلك، أصرّ على تصوير الجزء الثاني من المسلسل، قبل أن يعود للعلاج مُجدّدًا، ذلك الذي كان نتيجته اقتلاع حنجرته، وهو أتعس ما يُمكن أن يحدث لممثل، كنضال سيجري تحديدًا. في النهاية، من الضروري إعادة التذكير بأنّ هذه المقالة ليست استعادةً للراحل، لأنّه لا يزال حاضرًا دون شكّ، وليس مقالًا نقديًا، لأنّ نضال سيجري يسبق نقده بمسافاتٍ بعيدة أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد أوسو.. عندما يتوافق السوريون على صورة

من مهرج السلطان إلى السلطان المهرج