20-نوفمبر-2018

دريد لحام

في برنامجها الأسبوعي "في أمَل"، تبادلت الفنانة السورية أمل عرفة، وعلى مدار ساعة كاملة، المدائحَ والنكات واللحظات الدرامية الآسرة مع ضيفها "العملاق " دريد لحام، على حد وصفها له، منتظرة اللحظة الدرامية المناسبة للولوج إلى مسألة الوطنية السورية، الموضوع الأثير لديه، ومنحه الفرصة تقديم رؤيته الخاصة حول الانتماء للوطن وملحقاته النفسية.

يقيم دريد لحام علاقة حُلولية بين الوطن والأم، حيث الوطن هو الأم والأم هي الوطن

في البرنامج نلتقي بدريد لحام المنظّر الذي يقيم علاقة حُلولية بين الوطن والأم، حيث الوطن هو الأم والأم هي الوطن، فكما لكل أم أبناء هم بالضرورة جماعة مؤسسة على الخير على الرغم من جميع أنواع الغرائز والرغبات التي قد يحملها أبناء الجماعة الواحدة في ذواتهم، وما ذلك إلا لأنهم يرتبطون مع بعضهم البعض برابطة الحب، تلك الرابطة السحرية العجيبة التي بإمكانها إشاعة السلام والوئام بين أفراد محكومين بالتناقضات وتضارب المصالح، التي سرعان ما سيتخلون عنها عند سماعهم لأول كلمة حب من أمهم الرحيمة والعطوفة.

اقرأ/ي أيضًا: بين دريد لحام وخالد أبو النجا

يا له من عالم جميل ذاك الذي يرسمه دريد للاجتماع الإنساني، حتى ليخيل للمرء السوري أنّه حقًا في جنة عدن الخاصة بآل الأسد حيث الحب "الدريدي" يفيض على ساكنيها بالسلام الأبدي.

لا يخرج دور دريد لحام في تنظيره للاجتماع الإنساني عن دور الفنان الفاقد للصدق الذي تدفعه رغبته في عدم الانفضاح لأن يظهر ما لا يبطن، ففي حين يصر علينا أن نبادل السلطة الأسدية الغاشمة التي تحكمنا بالحب، يتعمد قصدًا بأن يخفي رغبته الدفينة بأن نطيعها طاعة العبد لسيده. لا يكتفي دريد في حضوره الهزلي على شاشة "لنا" لصاحبها سامر فوز بإقناعنا بنعمة العيش في حضن السلطة العطوفة والراعية، بل يحذرنا أيضًا من عواقب الخروج عليها، وإلا تحولنا من وجهة نظره إلى مجموعة من الأولاد العاقين الذين نستحق العقوبة التي تفرضها علينا على الرغم من قسوتها.

يستفيض "العملاق" في شرح مزايا قبولنا بالسلطة المتوحشة لآل الأسد كأم حنون، دون أن يكلف نفسه عناء تقديم سبب مقنع لسلوك الأم الحنون، أو الذات الرئاسية الطيبة التي قد يدفعها للتسبب بمحق أبنائها التي ترعاهم وتحبهم من الوجود، تارة عبر الكيماوي وتارة أخرى عبر براميل الموت العمياء، مرورًا بوحشية إلقائهم في غياهب المسلخ البشري، النسخة المصغرة للجحيم الإلهي بماركته المسجلة "الأسد غضب الله على الأرض".

عبر لقاء "العملاق" مع مروضته أمل عرفة، يعثر المرء على موهبة اللحام الساحرة المتمثلة في قدرته على التحكم بمشاعره المتناقضة كما لو كانت مصنوعة من صلصال، فيا للدهشة! كيف قدّر لرجل يدعي أنه غارق في منتهى أحزانه أن يقوم ليشمت من زملائه الفنانين الخطاة، وهو الذي يدعي امتلاكه لحب قادر على الفيض والوصول لكل الناس حتى أعدائه على شرط أن لا يكونوا فنانين متمردين على سلطة أسياده على ما يبدو؟ يا له من ساحر ذلك العملاق! فها نحن نراه في مشهد آخر ينهض من عمق حزنه الوجودي على الخراب الذي حل بالوطن ليسخر من الذين خانوا الوطن وتركوه لجراحه من أجل حفنة من الدولارات، كما لو كان الرجل منذورًا لمهمة الدفاع عن الوطن- الأم: "من الممكن أنني لم أكن أحب البعض منهم، ولكنني أحزن عليهم لأنهم أخطأوا وانشقوا، وكان من الممكن أن أدفع لهم حتى ينشقوا".

يا له من عالم جميل ذاك الذي يرسمه دريد للاجتماع الإنساني، حتى ليخيل للمرء السوري أنّه حقًا في جنة عدن الخاصة بآل الأسد 

في رده السابق على سؤال عرفة المتعلق بطبيعة المشاعر التي يكنها لزملائه الذي انشقوا عن وطنهم الأم، تبدو مشاعر اللحام واضحة لا لَبْس فيها، فهو من حديث المبدأ في وضع لا يسمح له بأن يبادلهم المحبة، وهو بدلًا من أن يصرخ بالفم الملآن ليقول إني أكرههم، يتصرف كممثل بارع ليقول إنه لا يحبهم مثقال ذرة، وكيف له أن يحب أشخاصًا قاموا بفعل الانشقاق عن الوطن المرادف لفعل الخيانة، وهو النقي الطاهر الذي لم يمسس قلبه سوء ولم يدخل عقله شك طيلة أيام المحنة، في أحقية آل الأسد بحكم رعاياهم من السوريين إلى أبد الآبدين.

اقرأ/ي أيضًا: فنانون سوريون.. ما بين الثورة وبساطير النظام

مثل سمور ناصع البياض يتصرف السيد النبيل، يبدي حزنه وأسفه أمام خيانات الآخرين حتى ليتهيأ لك أنه في موقع المتضامن مع سوء عورة خطاياهم التي لا تغتفر، فيما يهرول مبتعدًا عن الدنس الذي اقترفته أيديهم، متدثرًا بتقنية التعالي والاحتقار التي تسم روح الرجل على نحو كلي.

تمتح المشاعر الاحتقارية التي يكنها الرجل لكل منشق عن السلطة الأسدية المتوحشة من الحق المقدس للملوك، ذلك الحق الذي يمنحهم سلطة حكم رعاياهم حتى قيام الساعة ما دام ما يفعلونه لا يخرج عن كونه خطة إلهية معدة مسبقًا. تلتقي مشاعر اللحام العدوانية تلك مع تلك النكتة السمجة التي انتشرت في بداية الثورة السورية، والتي كانت تروج لفكرة تعوّد الناس على حكم آل الأسد وتقبلهم لفكرة "سوريا الأسد"، مقابل استنكارهم الشديد لفكرة تحولها إلى "سوريا فتحي" من جديد.

يتشبث دريد بفكرته ويهلل لوضعيته كعبد في دولة آل الأسد التي تحتقر عبيدها، ويصر بشكل عنيد على البقاء في حماها، وتشنيعه الشديد على كل شخص يخرج من رحم سلطتها المستبدة، مستندًا ربما هذه المرة لا على فكرته الساذجة عن المقابلة بين الوطن والأم، إنما إلى تصور عقائدي ثاوٍ في عقله وفي عقل كثير من مناصري السلطة الأسدية، تعود جذوره المعرفية إلى المذهب الأشعري الذي أمل أن يجد فيه صاحبه حلًا لأزمة العصبيات القبلية المتصارعة على السلطة، من حيث كونها وسيلة للحصول على الترف والنعمة لا كوسيلة لإدارة شؤون العامة على النحو الأفضل. إلا أن نواياه الخيرة سرعان ما تحولت إلى تصور أيديولوجي، صحيح وثابت دومًا، بيد كل من الحكام الذي رأوا فيها سندًا شرعيًا لتبرير استئثارهم بالنعم والأملاك واحتقارهم لرعاياهم، وبيد محكوميهم الذين رأوا فيه عذرًا لعدم مطالبتهم لحقوقهم ما دام انتفاضتهم على حكامهم لن يتمخض عن حكام أحسن منهم، فيما عيونهم في الحقيقة مركزة على العنف الذي يمكن أن يتسبب به لهم أولئك الحكام المدججون بالموت الزؤام. فيما يبدي دريد لحام احتقارًا منقطع النظير للعامة ولأصحاب فكرة "لا لسوريا فتحي"، يعود ليلتقي معهم على نفس أرضية الأفكار الأشعرية التي تزين للمحكومين روعة عبوديتهم لحاكميهم ما دام الحكام والذات الإلهية وجهان لعملة واحدة، واحدة تقرر وأخرى تنفذ، الأمر الذي يجعلنا نتفهم صرخة العبد في داخل ذلك المارد الجبار الملقب بدريد حين يقول: "في حدا ينشق على وطنه؟ يا جماعة الوطن أم".

رمى الأسد دريد لحام بالطاولة ذاتها، ذلك أن اللعب في حضرة الدكتاتور ليس سوى مادة للضحك على بؤس الواقع الذي يصنعه بنفسه في حضرة المهرج

تعود علاقة دريد لحام مع حكم آل الأسد إلى عقود خلت، حين كان الأسد الأب المتحصن بالقصر الرئاسي، لا يجد له من متعة تساعده على التخفف من أعباء وجهه المكفهر ومن قلبه المملوء بالأحقاد والوساوس سوى الضحك في حضرة المهرج دريد. حين وقف دريد أول مرة بين يدي حافظ الأسد أصر الدكتاتور المتأله على أن يتعامل معه كمهرج ظريف جالب للضحك، فيما كان دريد يطمح أن يُعامل كفنان، أي كناقد من الطراز الكبير، ذلك الشخص القادر على السخرية من سياسات آل الحكم والكشف عن تهافت شعاراتها، وعن زيف ادعاءاتها، وصولًا إلى صنع رأي عام يطالب بنقدها والمطالب بمحاسبة مدعيها. وهكذا وبدلًا من أن يقلب دريد المتحذلق الطاولة على الأسد الحصيف رمى الأسد دريد لحام بالطاولة ذاتها، ذلك أن اللعب في حضرة الدكتاتور ليس سوى مادة للضحك على بؤس الواقع الذي يصنعه بنفسه في حضرة المهرج، وليس ضحكًا على بؤس الملك وفي حضرته.

اقرأ/ي أيضًا: صح النوم يا سوريا

في كل مرة يخرج علينا دريد لحام، سواء في عمل فني أو في لقاء متلفز، نكتشف موت غوار الطوشة فيه، ذلك البطل الشعبي المشاكس الخارج من حواري الشام وعبقها، ليطل علينا دريد لحام السلطوي الذي يعتقد أنه ما زال بمقدوره التدليس علينا بتنظيراته الساذجة عن دريد لحام الطيب، الذي يصر على أن يكون حذاء في أقدام الوطن الحافية، مع علمه المسبق أن بشار الأسد ومن قبله والده قد اتبلعا الوطن على نحو كلي، ولم يبقيا لنا منه سوى أحذيتهم الملطخة بدمائنا. من دريد لحام الحالم بأن يصير حذاء في قدمي سيده بشار الأسد، إلى أنطوانيت نجيب التي تصر على جعل الحذاء العسكري تاجًا على رأسها، الرسالة واحدة هي التخلي عن الدور النقدي للفنان بكونه تعبيرًا عن ضمير الشعب الذي يتصدى لمعالجة مشاكله فنيًا، لصالح الفنان المرتزق الذي لا يعيبه بأن يصبح حذاء في أقدام جنود لا عمل لهم سوى ارتكاب مزيد من المجازر التي لا تعد ولا تحصى بحق السورين، الذين طالبوا بحريتهم وكرامتهم المنتهكة في مملكة آل الأسد.

يتعامل دريد لحام مع المنتجات الفنية التي يقدمها كنوع من السلع القابلة للبيع، لا كمنتجات تحفر عميقًا في ضميره الشخصي، ففيما نراه في اللقاء يستعيد ذكرى أغنية "يا مو" كنوع من حدث انقضى، نرى الكاتب السوري فؤاد حميرة يذكره بالقيمة المعنوية التي ظل يتحصن بها طيلة توقيفه في إحدى الفروع الأمنية ليذود بها عن شرف أمه الذي ما فتئ جنود الأسد يخوضون فيه تجريحًا ومهانة. في اللحظة التي تسبق مغادرته لهذه الحوارية الهزلية التي ظل فيها يتنقل بين العملاق الفني الذي لا يجاريه فنان، رغم غيابه السريري عن الفن لمدة تجاوزت عشرين عامًا، والمنظر السلطوي الذي يحتقر معارضيه، طلع علينا دريد لحام الحقيقي الذي لا يكن الاحتقار لمعارضيه وحسب وإنما لأطفالهم أيضًا، الذي لم يتورع من الدعوة لإعادة فحصهم أخلاقيًا ليتأكد أنهم لم يتلوثوا بموبيقة احتقار الأسد.

"في أمل" لم نكتشف صورة دريد لحام ذي الشروخ الكثيرة، وإنما خيانته لضميره بصفته فنانًا صاحب مشروع نقدي.

اقرأ/ي أيضًا: 

نقابة الفنانين في سوريا: مجلس تأديب علني

عادل إمام.. الزعيم الهلفوت