16-يوليو-2017

الشاعر ناجي رحيم

مَن يطالع القصيدة العراقيّة عمومًا يجزم أنّها قصيدة مغرومة بالألم، ألم متفاوتٌ في درجاته تُطالبُ به القصيدة لتُحافظ على صحّتها ولتجدّد مناعتها في مقاومة اليأس بلاغةً. ولعلّها وسيلة دفاعيّة يلجأ إليها الشعراء، كلّ الشعراء، ليحفظوا للذاكرة شرفها، وليحتموا بها من منافٍ أخرى.

يلعب ناجي رحيم في باحات الفاجعة العراقيّة، الفاجعة الفردانية التي لا تنفصل عن الفاجعة الجماعيّة

لكنّ ألمَ العراقيّ مختلف، وثمّة شاعر يبرهن ذلك بوضوح. يطلّ العراقيّ ناجي رحيم، من كَومة قشّ، يلوّح بسواد شعره وبحرارته، يُعيدُ للألم العراقيّ عافيته، ألم ينشّطه أدرينالين الشّعر ويشدّ تجاعيد القصيدة الحداثيّة. ناجي رحيم صوتٌ يتيمٌ قادمٌ من الناصريّة ومستوطنٌ في هولندا، يجولُ بين خمارات البلد، يبكي وطنًا ومنزلاً وأسرةً وأصدقاء.. يستحضر أرواح من فقدهم، وأرواح من تركهم لأقدارهم، مريض بالذاكرة الخارقة، تلك الذاكرة التي لا تنسى.

اقرأ/ي أيضًا: لبيدرو مايرال.. في مديح النقصان

ناجي رحيم (1965) شاعرٌ غاضب، منتف، يعاني من شِياخٍ مبكّر للروح يعود إلى منابع الحزن الدّفينة في عميقًا في الذاكرة، يتدحرج في مرامي الأخطاء، يشتمُ ببراعة ويبصق على العالَم دون أن يبالي، يغتصب اللحظات الحرجة من اليوميّ اغتصابًا ثمّ يُشعل لفافة ويتفلُ ما علق من تبغها ويبتسم ساخرًا من العالَم. هو من الشعراء القلائل الذين يبصقون على الورق كلّ إخفاقاتهم وإخفاقات العالَم دونَ حرجٍ، "يتصنّع" الهُلاسة التي يستقرّ في باطنها دلالٌ شعريّ مدجّج بالنكبات.

يلعب ناجي رحيم في باحات الفاجعة، الفاجعة العراقيّة، الفاجعة الفردانية التي لا تنفصل عن الفاجعة الجماعيّة.. شاعر ضجيجه، سرديّ وشعريّ، داخل القصيدة. تبدو هذه الفاجعة حقيقيّة، لا تهمّها التفاصيل بحذافيرها بقدر ما تهمّها دلالات هذه الفجائعيّة التي ترتبط ارتباطًا عضويًا بالذاكرة. لعلّ ما يقوله ناجي رحيم في لحظةِ بَوح يُفردها لهذه المقالة، ما يؤكّد هذه الفجائعيّة المكتوبة ببساطة:

"أصحو في الشرقية، في الناصرية كلّ صباح وأنا في القطار الصاعد إلى روتردام حيث يوم من عمل، وجوه تجالسني، أصدقاء طفولة وصبا وأحداث، أرجع من العمل إلى البيت وهي معي، في البيت مساءً يبدأ صراعي، أشرب أم لا؟ أشرب، لا، الكبد متشمّع تمامًا، بعد فحوصات وتلفزة تركوا الأمر لي، اختر كيف تريد، واضح، في المساء يبدأ عدّ من نوع خاص، أقفز إلى سماوات وأهبط منها كي أصعد من جديد إلى ذكريات نائمة، أوقظها وأتحدّث مع وجوه أطبطب أحيانا على بيبان كي تفتح، أدخل إلى بيت الذكرى وأجالس أصدقائي الموتى، أحيانا تمتدّ الجلسة إلى الصباح، أخبرهم عادة أني أشرب كي يرفعوا هم أيضا كؤوسهم ونقرع معًا وجه عالم من زفت". 

والنحسُ، لمن يطالع قصيدة ناجي رحيم، سمةٌ أخرى بارزة فيها. إنّه لا يتسامح ولا يتصالح كثيرًا مع العالَم، لأنّ العالَم أساسًا لا يعوّضه عن إحساسه المتواصل بالفقدان. من هنا، تجده يصرخ شعريًا ويتحدّى مثبتًا فردانيّته بكلّ ما تحمله من نحسٍ وتشاؤم. ورمٌ يسيّج لحظته تارةً، يرى روحه فراتًا من حزن وحبّ، يصفعه العالَم، ويصيرُ هو العالم.   

 وقد تكون الرّتابة سمةً ترخي عضلات القصيدة، إذا لم يعرف الشاعر كيف يداورها في قصيدته، لكنّ الرّتابة التي تظهر في قصيدة ناجي رحيم تشدّ مفاصل القصيدة وتزيدها حيويّة. يعودُ ذلك في الأساس إلى طبيعة التّعبير الشعريّ عند الشاعر، والذي يقترب كثيرًا من واقع الشارع واليوميّ والحميميّ إلى درجة يسلخ معها رحيم تفاصيل هذا اليوميّ الرتيب سلخًا، ويحقّق من خلاله لذةً تتأرجح بين التنافر والانسجام. من أمثلة ذلك:

"أمارسُ عاداتي التّافهة كلّ يوم،

كلّ يوم أجرّ أذن النّدم وأقول غدًا غدًا أفضل،

سأذهبُ للعملِ كأيّ حمار،

لستُ مقتنعًا بعملي ..

أكذبُ عليّ في الحياة

أنا كما قال لي صديقٌ شاعر

(أنت نفسك بحاجة لثلاثة مصلحين)

سأذهبُ إذًا نمتُ أو لم أنمْ

سأنهي مشاكل هذا العالم ..وأجرجرُ حياتي معي"

على طبقٍ من ذهب، يقدّم لنا ناجي رحيم الوصفة السّحريّة المتكاملة للقصيدة العربيّة الرّاهنة: يخترع تعابيره العنيفة ويكسرها بعذوبةٍ خالصة تشحنها بطاقة شعريّة مجترحًا هويّةً قفّازة شغوفة بالحبّ تارةً وبالألم تارةً أخرى وبالعنف الذي لا مفرّ منه تارة أخرى.. فَها هو يركضُ خفيفًا نظيفًا في بحر الصّورة الشعريّة الخافتة، بلا توسّل بلاغة مفرطة، وبلا معايير شعريّة خارقة:

"أيّتها الملعونةُ رأيتُكِ في القطارِ هذا اليوم،

ألفٌ من نساءٍ ابتسمنَ لي، 

كنتِ أنتِ"

وها هو ناجي رحيم يكتب الشّعر مثل رجل مهزوم هزيمة يقطر حزنها داخل القصائد بما يتكافأ مع الصور الشعريّة العريضة:

"كائنٌ عراقيّ، 

أحملُ عمري على ظهري وأمشي مثل نملةٍ 

أبحثُ عن حياة، 

أُسقطُ أثقالًا زائدة، 

أدبُّ في كلّ صباح كأيّ عراقيّ  يحلمُ بنافذةٍ أو بحبيبةٍ أو بشارع،

حُلُمي شارعٌ نظيفٌ كي ألامسَ بمجسّاتي أرواحَ الذين يمشونَ مزدحمين،

أو الذين غابوا مزدحمينَ بهمومٍ أحملُها على ظهري مثلَ أيّ عراقيّ  يحملُ أثقالًا على ظهره كلّ يوم"

بيتُ ناجي رحيم الشعري بيتٌ عامرٌ بالإحساس بالفقدان، تلك متلازمة أخرى تعاني منها قصيدته. لا تروم هذه القصيدة الرّكض حتى النهاية في حقول النّعومة، فرحيم ينقضّ على اليوميّ الجلف بجلافة، وعلى المَوت الفظّ بفظاظة، لقطات عابرة يكبّرها ويكبّرها حتّى تتحّول إلى وَحشٍ يقف الشاعر أمامه متحديًا:

"لا وجعَ  يرسمُني الآن، 

أوجاعُ  العالمِ كلّها  تتبخّرُ من مساماتي، 

لن أتصالحَ معك أيّتُها الحياة، 

أباشرُك  ببصاقيَّ المقدّسِ،

بصاقي المقدّس على سادتكِ وآلهتكِ وأصنامك، 

كلُّ يومٍ لي صراعٌ مع مخبوءٍ  ينزّ من  أبطيكِ العفنين،

سأكتبُكِ وأحذفُ، أكتبُكِ وأحذف،

أطشّرُك  بمساميرَ  تلهثُ في روحي، 

أيّتها العاهر لن أنحني لن  أنحني لإلهٍ كسيحْ" 

شاعرُنا كائنٌ شعريّ بخليط مجنون من الطبائع والصّفات.. ثرثار بوضوح، يُطلقُ بحريّة العنان لعصبيّته واسعة الخيال على الورق، قاسٍ في تعامله مع نفسه، يتصيّد المَوت ليعانده وليختلط الألم والنّحس مرة أخرى:

"بعد موتي سيأتي أصدقاءٌ، 

يضعونَ أكاليلَ وردٍ على قبري،

 بعضُهم يأتي بقنانٍ من أوزو،

البعضُ يأتي ويصرخُ: انهضْ معنا بيرة باردة،

آخرون  يذهبونَ للتدخين ماسحينَ آثارًا من دموعٍ أو ضحك،

 بينما رمادٌ يمشي في البحر صعودًا إلى الفرات"

في شعر ناجي رحيم ثمّة أنماط اللغة المعيارية وانحرافات واستعارات مخبوزة على مهلٍ تنزعُ إلى الفهلوة، وإلى رصف المفردات الشعريّة رصفًا مهندسًا صورًا وعوالم شديدة الخصوصيّة:

"أرصفةٌ من يتم،

وجوه بلا جهات،

تواريخ في سراديب، أصوات منهوبة،

لا أصابع، لا حناجر

هنا على رصيف العالم أصرخُ تعالَي اعتقليني

أدخليني إلى عيشَكِ الزّاهر إلى زنزانتك المضيئة أدخليني أيّتها الكائنات"

تبدو عبارات ناجي رحيم الشعريّة عبارات رجلٍ صاحب صنعة، أشبه بالكاليغراف، أو الزجّاج، أو الفنان التشكيليّ، أو الخزّاف. في كلّ منها ثمّة اهتمام دقيق بتفاصيل العمل أيًا كانت درجات نشازه أو مألوفيّته أو وقاحته. وكثيرًا ما يبدو رحيم، الغارق في وداعة ذاكرته، عميق الصّلة بصورٍ لحظويّة قديمة لا يتوانى عن تقديمها للقارئ بعفويّتها دون حرج:

"أشمُّ حدائقَ شفتيكِ، 

ألعقُ لهاثَكِ الخائفِ ،   

بطيئًا أسيحُ  بين نهديكِ حيث حليب الأرض، 

هناكَ أخشعُ وأرضع ، 

في بستان حجّي عبّود 

قرب ناعور كان يضخّ ماءَ لهفتِنا،   

لا بحر الشمال لا الأطلسي،، 

إلى ذاك الناعور أعود حيثُ رضعتُكِ أوّلَ مرّة" 

نحن نقف أمام مفهوم الشاعر الكادح والقصيدة العاملة، قصيدة الغاضبين المتعرّقين النّاقمين على العالَم الأعوج. إنّها قصيدة لروح الثائرين الّذين لاكتهم الحياة، بخياناتها، بمللها اليوميّ.. القصيدة التي تحرّض على الانفعال وتلوّح بالسّكين دون أن تقتل. إنّها قصيدة المعذّب الحرّ، التي لا تتعب من التّعب معلنًا: من أحزانٍ يكتبُها العالمُ سأخرجُ وأكتبُ أحلامي، أكتبُ كي أحذف غدًا كلّ شيء.

بيتُ ناجي رحيم الشعري بيتٌ عامرٌ بالإحساس بالفقدان، تلك متلازمة أخرى تعاني منها قصيدته

تتأرجح القصيدة عند ناجي رحيم بين السرديّ والشعريّ. يغرق الشاعر أحيانًا كثيرة النفس السرديّ وصوره التي تثقل كاهل القصائد إلى حدّ يضيعُ فيها الشعريّ. الغريب أنّه يعي لذلك وعيًا تامًا، لكنّه لا يمتعض من هذا الدّفق السرديّ الذي ينشز في أحيان كثيرة ثمّ يبني مقاطع يختزلُ في جسدها روحه الشعرية التي تتألّف من مادّة قوامها غضب وحزن وذاكرة مكلومة، يقول ناجي رحيم: 

"تُمسك بأذن العالم، تقوده إلى لحظة صفاء، تمسك بالألم، بركبتيك في مزبلة المستشفى، بعظام عراقيّة، بأغانٍ قديمة وأنت تحرس في الفجر، تحرس خوفك والّذين لعبوا بك، دورات حراسة، الآن كم تضحك عليك، العالم هذا بشعره الأنيق، بغائط الملوك، بأسنان من حديد، بوصايا السوق، بالطائرات والبوارج، بالدّموع التي تتخثّر تحت مخدّات صامتة كنت تحرس وتقاد كأي ضفدع تحمل عتادًا وجثث"

اقرأ/ي أيضًا: محمد خضيّر.. ما فات وما لم يفت من السيرة

لا يكتم ناجي رحيم غيظه، لا يسيطر على وهج غضبه، بهما يحرق الأخضر واليابس، كما يليقُ بالشعر "الحرّ" سيّد نفسه، لا يساوم ليكسبَ قراء، لا يغادرُ قبيلته، لا يهجر ذاكرته، لا يتصعلكُ على غير هدى، بل يدوّن الألم بفظاظة واعية، ويكتب فاجعته بشعريّة تبدو عفويّة، لكنّها ليست تمامًا عفويّة، وإنّما هي ذكاء الشاعر الحادّ في إقناعنا بعفويّته. يكتب الشاعر القصيدة من "حميّة" العراقيّ الذي فقد وطنه، والطفل الذي فقد طفولته، والابن الذي فقد أسرته، والضالّ الذي فقد طريقه إلى غير رجعة، والمنفيّ المُسرِف في ولعه بالتّفاصيل. عصفور جريح يقف على عامود كهرباء متهاوٍ.. يعرف ذلك، يأخذ نفسًا، ويتهاوى معه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تشارلز سيميك والكتابة في العتمة

عبد العظيم فنجان.. كمشة سرد