05-يوليو-2023
مظاهرة لإطلاق سراح المعتقلين في السجون السورية

(Getty) مظاهرة لإطلاق سراح المعتقلين في السجون السورية

يعلم أولئك الذين خبزوا النظام اللبناني وعجنوا قواه، أن قرار التمنّع عن التصويت إيجابًا على إنشاء مؤسسة دولية للكشف عن مصير المخطوفين والمفقودين في سوريا، وتقديم أجوبة وافية إلى عائلاتهم، هو القرار المنطقي الوحيد الذي يمكن أن تتخذه هذه القوى، وأن تعمل بالتالي على مساعدة النظام في سوريا على التنصل من إنشاء هكذا مؤسسة يمكن أن تصل حد إدانته، علمًا أن المؤسسة في ديباجتها لم توجّه أصابع الاتهام إلى النظام ولا أية جهة أخرى. فالقوى الطائفية اللبنانية أقدمت على الممارسة ذاتها خلال الحرب الأهلية، من الخطف والتصفية على الهوية إلى الإخفاء القسري والتطهير الطائفي، مسفرةّ عمّا يزيد عن 200 ألف قتيل ومعوّق وجريح، وبينهم 17 ألف مفقود ومخطوف مصيرهم مجهولًا بعد أكثر من ثلاث عقود على انتهاء الحرب على أيدي من أشعلوها. هذه القوى لن تمارس إلا فعل التنصّل من المسؤولية، ولن تساعد غيرها الذي رعاها إلا على التنصّل، خصوصًا وأن نقطة ارتكاز النظام اللبناني ورأس حربته اليوم هم جماعة 8 آذار، وعلى رأسهم الثنائي الشيعي، حلفاء النظام في سوريا، ومن العبث افتراض تصويتهم على أي قرار قد يطاله ويدينه، لاسيما مع سياسة الانفتاح المستجدة تجاهه من بعض الدول العربية التي كانت قد قاطعته بعد اندلاع الثورة عليه.

لطالما تنصّلت القوى اللبنانية، وأمراء الحرب فيها، من المسؤولية التاريخية لناحية الكشف عن مصير المخطوفين والمفقودين والمجازر الجماعية التي ارتكبتها

لطالما تنصّلت القوى اللبنانية، وأمراء الحرب فيها، من المسؤولية التاريخية لناحية الكشف عن مصير المخطوفين والمفقودين والمجازر الجماعية التي ارتكبتها، وها هي الحكومة اللبنانية تستكمل الالتفاف على مصير جزء من هؤلاء المخطوفين والمفقودين بالتستّر على إنشاء مثل هذه المؤسسة الدولية التي من المرجّح أن تساعد في الكشف عن مصير المخطوفين اللبنانيين في السجون السورية، وعلى رأسهم عناصر الجيش اللبناني الذين قاتلوا تحت أمرة ميشال عون قائد الجيش ورئيس الحكومة الانتقالية في حينها، وذلك عندما شن حرب التحرير ضد الاحتلال السوري للأراضي اللبنانية، قبل أن يفر من أرض المعركة باتجاه السفارة الفرنسية صباح 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1990 ويتركهم خلفه ليواجهوا مصيرهم وخطفهم على أيدي قوات الاحتلال السوري، والذي تركهم مرة ثانية حين عاد إلى لبنان من منفاه الفرنسي بموافقة النظام السوري في 7 أيار/مايو 2005. والذي عاد وتركهم خلفه للمرة الثالثة بعد أن وصل إلى كرسي رئاسة الجمهورية في 31 تشرين أول/أكتوبر 2016 بدعم من حلفائه في تيار الممانعة، دون أن يكلف نفسه عناء الكشف عن مصيرهم في الأقبية السورية كل هذه الفترة. وها هو وزير الخارجية اللبنانية عبدالله بوحبيب، المحسوب من حصة عون، وها هي حكومة عهد عون التي شكّلها ويتحمّل هو وحلفائه في الممانعة مسؤوليتها، يتنصّلون من مسؤولية تاريخية تصب في صالح التصويت لإنشاء هكذا مؤسسة، مع كل ما قد يمكن أن تقدّمه من إجابات وكشوفات بشأن المخطوفين اللبنانيين في أقبية المخابرات السورية.

لقد خبرنا في لبنان ميليشيات ومافيات تمارس كل الموبقات، تكره الحقيقة وتزدريها، وتحاول اللعب على حبال تفتيت المجتمع وتسعير نار الخلافات الطائفية بين ناسه، كله بهدف الهيمنة وزيادة الثروة وإن على حساب التنصّل من تفجير مرفأ بحجم مدينة، وإن على حساب ميزانية دولة وانهيار وتشتت كل العائلات فيها، ولو من خلال قتل هذا أو ذاك من أناس لا يملكون سوى الرأي ويدافعون عنه باستماتة. إنه لمن العبث أن نتوقّع ممن يخافون الأقلام والأوراق والكتب، أن يقفوا في صف الحقيقة ولو لناحية المبدأ، ولو كان ذلك التزامًا بروحية الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان وغيرها من شرائع دولية، وغيرها من شروط ومبادئ إنسانية تحتّم التصويت لصالح إنشاء مؤسسة تعمل على كشف مصير أكثر من مئة ألف مخطوف ومفقود سوري جلّهم في أقبية المخابرات والسجون النظامية.

لقد برّر وزير الخارجية بوحبيب عدم التصويت بالقول إنّ "الحكومة اللبنانية مُلتزمة بالتفتيش عن المفقودين"، وأن الأمر "مرتبطٌ بقرار دولي اتخذ سابقًا"، واستكمل كلامه بالتذكير بوجود لجنة "لمواكبة ذاك الملف"، وهو ما لم يوصل اللبنانيين إلى أي نتيجة حتى اليوم، خصوصًا لناحية الكشف عن أولئك الذي خطفهم النظام في سوريا على الرغم من الحج السياسي الذي كانت تمارسه معظم القوى اللبنانية نحو سوريا، وعلى رأسهم وفود التيار العوني! فأين مفاعيل القرار الدولي الذي يتحدث بوحبيب عنه؟ ولماذا لم تصل اللجنة، ولا حتى القوى السياسية حليفة النظام في سوريا إلى أية نتيجة؟ لقد برّر "بو حبيب" قرار عدم التصويت بوضعه في المحافظة على إجماع الدول العربية، على الرغم من أن تلك الدول لا مخطوف لها على أيدي النظام في سوريا، وبالتالي فالمقايسة نفسها غير ممكنة ولا هي بالمنطقية!

بالإضافة إلى ذلك، لم يتوان الوزير عن نفي إعلان تلقيّه أي اتصالٍ من سوريا، أو من أي جهةٍ أخرى، للضغط باتجاه عدم موافقة لبنان على مشروع القرار الأممي، وختم قائلًا: لبنان يريد معرفة الحقيقة عن المفقودين وهو مستمرّ في هذا الإطار، والمشروع المطروح سياسيٌّ وليست هناك من آلية واضحة لمعرفة مصيرِ المفقودين اللبنانيين وغيرهم. فمن المستهجن أن يقرر وزير خارجية دولة فيما إذا كانت المؤسسة مسيّسة أم غير مسيّسة، كما من المستهجن أن يتخذ موقفًا دفاعيًا ويضع اللبنانيين في مواجهة أغلبية الشعب السوري، في حين أنه ملزم بالتعبير عن حاجة ومصلحة دولته وشعبه، سواء المصلحة الآنية أو الاستراتيجية، وللبنانيين المصلحتين من خلف هكذا مؤسسة:

  • أولًا، المحافظة على الغايات الإنسانية من خلف تلك المؤسسة، وعلى الرغم من أنها غير كافية. فلبنان من المؤسسين للأمم المتحدة وللشرعية الدولية، ولا مصلحة للبنانيين إلا في البقاء ضمن الشرعية الدولية، خصوصًا في ظل ما يعيشونه من انهيار.
  • ثانيًا، لأن نشاط المؤسسة سيصبّ، بشكل مباشر أم غير مباشر، في خانة الكشف مصير الكثير من المخطوفين اللبنانيين في السجون السوريّة.

أخيرًا، تصدر بعض الأصوات اللبنانية التي تحاجج هذه الحكومة بقرارها، علمًا أنها أصوات مسؤولة عن خطف وقتل الكثير من اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم من جنسيات، لم يُعرف مصيرهم حتى الساعة، لذلك من الأجدى لهذه القوى تحمُّل مسؤولية ما اقترفته والكشف عن المقابر الجماعية التي شيدتها، وعن الذي تعرضوا للتصفية والخطف، لعلها تساهم بذلك بالشق المتعلق بها على المستوى الإنساني الذي تزعمه. كما أنه من المفيد التذكير بأن هذه المؤسسة الدولية، المزمع تشكيلها، لا تلبي الطموحات، لأن مجرد الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف في سوريا هو أمر مرفوض، هو إدانة وطعن بالحقيقة في ظل وجود نظام يمارس كل أنواع عمليات الخطف والتنكيل والاضطهاد والتصفية منذ بداية نشأته، وخصوصًا مرحلة الثورة، فهو يتحمل المسؤولية الأكبر ويجب أن يتم التعامل معه انطلاقًا من هذا الأساس.