14-أبريل-2023

عادت الأسابيع الأخيرة باللبنانيين مباشرة إلى لحظة انفجار المرفأ (Getty)

تقول كلمات الأغنية:

"ما دام أحلى وردة بتموت،

والطير شو ما علا بيموت؛

صدّقت شو بتحبني،

قدك ما حدا حبني،

بس ليش لـ هالحب ما يموت؟

يا عمي ما الشمس بتموت،

إنسان هلق كان بيموت،

ليش لـ هالحب ما يموت؟

وبيموت".

لم تمر أغنية زياد الرحباني مرور الكرام في الفترة التي تم إصدارها فيها عام 2001، أي عندما صدر ألبوم الأغاني المشترك بينه وبين المغنية سلمى مصفي. بل لقد شكّل هذا الألبوم نوعًا من الصدمة عند المستمعين، خصوصًا في هذه الأغنية التي ولشدّة "تشاؤميتها" كانت تضاهي الواقع الخفي المنهار لهذه الدولة منذ تلك الفترة. الواقع الذي كان يترنح أمام أعين اللبنانيين، وأمام أعين المتابعين والسياسيين والاقتصاديين الذين كانوا يعلمون بشأنه منطقيًا، لكنهم لم يحركوا أي ساكن.

عادت الأسابيع الأخيرة باللبنانيين مباشرة إلى لحظة انفجار المرفأ، فأحيته في ذاكرتهم، لا سيما في لحظة التأويلات والتفسيرات المتضاربة للقانون والصلاحيات والصراع الذي دار على المستوى القضائي

لقد شكّل هذا الألبوم صدمة واقعية، لاسيما في هذه الأغنية، وإن كانت تتكلم عن الحب، خصوصًا في قراءة أولئك الذين يركنون ويحبّذون الخواتيم الإيجابية والنهايات الفرحة والسعيدة، أي الذين يرغبون رؤية الحقيقة والنور آخر النفق، على منوال قصص الرحابنة ومسرحياتهم وأغانيهم التي هيمنت فترة لا يستهان بها على الثقافة اللبنانية خصوصًا، والتي كانت تمتد لتلاقي قراءة أولئك الإيجابويين الذين يتمسكون بالنزوع الخلاصي سواء العربي أو الغربي عمومًا. خلاص إن لم يكن مع زياد الرحباني يومها، وإن لم يكن في تلك الحقبة، وإن ليس في تلك الأغنية، ولا في زمان ومكان وماضي ومستقبل هذه العلاقة وتلك الدولة.

كانت هذه الأغنية بمثابة صدمة، في البداية، وفي السياق، وفي النهاية. تمامًا كالصدمة التي نعايشها في لبنان اليوم بالتلازم مع موت الدولة، أي موت لبنان كدولة، ولاحقًا موته كفكرة قبل أن تصبح الدولة. وموته في الخلاصة أيضًا، أي موت لبنان كما نعرفه، وكما يعرفه المحيط العربي والعالم، وانتهاء آخر أنفاس الناس والمؤسسات فيه وبه.

والكلام ليس على سبيل المبالغة، ولا من بنات أفكارنا، بل معظم اللبنانيين باتوا يشعرون بهذا الضيق، باتوا يشعرون بهذا الحرج والخوف والقلق الذي يتأتى من إحساسهم بأن الخناق أخذ يضيق على رقابهم أكثر مما هو متوقع ومتخيّل، وأكثر مما هو مُفترض ومسموح. وكلما أخذ يضيق، كلما كان الموت يدنو بشكل أكثر تسارعًا فيصبح أكثر حتمية ويقينية، وبمنحى أقسى وأكثر إطباقًا. وكلما كانت النهاية في أغنية زياد الرحباني المشار إليها أعلاه تتمدد لتطال أكثر من مجرد علاقة حب بين شخصين، تضرب عميقًا في فناء لبنان الذي يقترب من انطباق واتضاح الظلام الذي كنا ندخل في مجاله منذ تلك الحقبة.

عادت الأسابيع الأخيرة باللبنانيين مباشرة إلى لحظة انفجار المرفأ، فأحيته في ذاكرتهم، لا سيما في لحظة التأويلات والتفسيرات المتضاربة للقانون والصلاحيات والصراع الذي دار على المستوى القضائي، والذي من المفترض أن يلتزم بنص قانون واحد وله تفسيرات وقواعد محددة. كما تكرّس إحياء هذا الانقسام في خطاب الحرب الأهلية المتجدد، في الصراع الذي تكرس على مستوى ضبط مسألة التوقيت وما رافقها من خطاب الانقسام والتشظي. لكن اللحظات لم تكن مجرد لحظات، بل كانت، ولثقلها، عدّة تواريخ متواصلة ومكثفّة في لحظة.

بلمح البصر عادت الأيام إلى مكان انتشار الأشلاء والموتى وتكسر الزجاج، فرَكَنت جثث هؤلاء بأكملها هناك، على الهامش، وهي تصفن بروح تدفع عن طرفها حجرة كانت تمنعها عن إتيان أي حركة. عادت الأيام إلى نقطة سابقة، في المنطق وفي السياق والرواية. عادت إلى بديهية أن مجرد تجدّد مرور فكرة الموت، وفي كل مرة، هي السبيل الوحيد الذي يستدعي نبض الحياة داخل اللبنانيين. فهل كان ما عايشه الشعب اللبناني، أو بالأحرى الشعوب اللبنانية، وهل أن ما يعايشونه اليوم، هو دولة ميتة منذ الولادة، ولم تكن الأيام التي مرّت وهم يعيشون فيها سوى خاتمة متكررة وبشكل أبدي؟ بل هل كان كل ما يجري هو مجرد تعمق موت تلك الدولة مع مرور الأيام؟ وهل كان اللبنانيون يعتقدون أنهم أحياء هنا، وأن هذا الموت كان الشكل الوحيد الذي يدلهم على هذه الحياة؟ وهل كانوا يصدّقون فعلًا ما كانوا يعتقدونه حول أن ما يعيشونه من مسار، ليس سوى تبدّيات لروح لبنانية تعرف جيدًا كيف تعود لتنبعث من رمادها، فتقوى على الظهور في صورة أخرى، وفي موضع وهيئة وشكل مختلف، كما لو أنها تحوم فوق موتها، تداعبه وتحترق به بشكل مستمر ومتكرر، ومن البداية وإلى النهاية عند كل مرة وكل حدث؟

هذا بالتحديد ما يمر أمام أعين اللبنانيين الآن، ما يشعرون بثقله، فلا يدركونه لأن نمط مروره بطيء، وإن كانوا قد شاهدوه بشكل يستطيع أن يُظهِر لهم كل إمكانيات تلقفه، وكل إمكانية مراقبة تفاصيله الدقيقة بهدوء وطمأنينة ويقين. فها هم اليوم يرون تفاصيل انسلاخ الروح عن جغرافية وتضاريس هذه القصة وهذا التراث والجسد. تراهم وكأنهم تكثيف لآخر مواطن ينازع وقد علقت تحت أظافره بقايا الجذع الذي كان متمسكًا به. فلا عودة إلى هذا المكان وهذا الجذع بعد اليوم، لا عودة إلى هذا الموت، ولا إلى هذه الفكرة المتلبّسة غطاء الدولة كمؤسسة. لقد انتهت قصة دولة تضرب أسطورتها عميقًا في التاريخ، وانتهت معها أسطورة طائر الفينيق، وإن بشكل غير دولتي، وإن بشكل غير أسطوري، وإن بشكل مخالف لكافة تفاصيل عبق الحياة المنتشر في شكل الدولة الماضوي والمستقبلي وحضورها المستمر. فالأمر بأكمله بات مجرد مزيج غريب عجيب من تفاصيل غير واضحة المعالم، أو بالأحرى، مزيج من تفاصيل بهتت معالمها منشدّة تكرارها، ومن تكثيف مرور كل هذا الوقت فوق تفاصيل هذه الجريمة المستمرة.

هل كان ما عايشه الشعب اللبناني، أو بالأحرى الشعوب اللبنانية، وهل أن ما يعايشونه اليوم، هو دولة ميتة منذ الولادة، ولم تكن الأيام التي مرّت سوى خاتمة متكررة وبشكل أبدي؟

يبقى أن بعض الذكريات ما زالت عالقة هنا، ما زالت تتلبس شكل كائنات متحركة في أشكال الموت المختلفة والمتعددة. ونحن في لبنان تفاصيل تلك الكلمات وصلات الوصل بينها. هذا ما يرتسم في أفق ما تبقى من هذه الدولة، وما تبقى من هذا الشعب اليوم. مجرد ملامح وتفاصيل كثيرة لا تجتمع على بعضها البعض لتعكس أي نوع من أنواع الحياة، ولا أي شكل من أشكال الاستمرارية. بل كل ما يحدث يؤشّر إلى الموت ويؤكّد حضوره، ويحيلنا إلى ثقب أسود لا قاع له ولا أبعاد، مجرد هدوء وصمت وظلام دامس ممتد نغرق فيه وبه دون أي حافة، ودون أي خشبة خلاص نتمسك بها علّها تستبدل هذه النهاية الحتمية التي نتجه إليها بخطوات بارزة الوثوق وشديدة الوقع.