20-أكتوبر-2019

مشهد من احتفالات مولد السيد البدوي بطنطا (نور عادل)

إعداد: محمد محمود ومحمد العتر

على بعد نحو 100 كيلومتر إلى الشمال من القاهرة، يتوافد المريدون والمحبون كل عام من جميع أنحاء الجمهورية إلى مدينة طنطا، في دلتا مصر، حيث الجامع الأحمدي الذي يضم مقام السيد أحمد البدوي، القطب الصوفي، وأحد أبطال المخيال الشعبي المصري، الملقب بـ"جايب الأسرى".

يذخر الاحتفال بمولد السيد البدوي في مدينة طنطا بمصر، بالعديد من المظاهر ما بين الديني الطقوسي والاجتماعي الفلكلوري

في شهر تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، يتم إحياء مولده باحتفال ضخم، من بين أضخم احتفالات الموالد في ربوع مصر. تحييه مختلف الطرق الصوفية، ودراويش جذبهم الوجد إلى أحضان "شيخ العرب".

اقرأ/ي أيضًا: رحلة في عالم طنطا.. مدينة الأسياد والأولياء الصالحين

مئات السنين من إحياء ذكرى لا تنضب

نحو 70 طريقة صوفية، وعشرات آلاف الزوار يحجون لطنطا لإحياء مولد السيد البدوي لأيام قبل الليلة الكبيرة، الليلة التي يقال إنه انتقل فيها. 

ويذخر الاحتفال بالعديد من المظاهر ما بين الديني الطقوسي والاجتماعي الفلكلوري؛ فتجد نساء يرسمن بالحناء على الكفوف، وأشباه مجاذيب يبعن بضاعات الذكرى للمولد، ورقص غير منظم، وتجمعات ذكر وإنشاد، وبعض الألعاب لتسلية الكبار كما الأطفال.

مولد السيد البدوي

والمولد في الثقافة المصرية مرتبط ببعض الأكلات والحلوى الشعبية، التي يقال إنها عرفت طريقها لبطون المصريين أول مرة مع الموالد. وتشتهر بعض الأكلات عن غيرها، مثل "الفتّة" اللحم بالأرز المختلط بالخبز والمرقة، والفول النابت، وحلوى الحمصية والسمسمية والأرز باللبن.

ولكون السيد البدوي أبرز معالم طنطا على الإطلاق، فقد اشتهرت المدينة ببيع حلوى المولد، في أيام إحياء المولد وفي غير ذلك، إذ تنتشر محال بيع الحلوى والتسالي حول المقام البدوي. 

الرحلة من محطة القطار إلى السيد البدوي

تقع محطة القطار بمدينة طنطا على مقربة من مسجد السيد البدوي الذي يقع تقريبًا في وسط البلد. ويرجع تاريخ إنشائها إلى حقبة الاستعمار الإنجليزي. وكان مسجد البدوي يتوسط الأرض وتلتف حوله البيوت، فبدا منطقيًا أن تؤسس محطة القطار إلى جواره.

في الطريق القصيرة من المحطة إلى المسجد، ينتشر الباعة الجائلين على كل جانب، إذ يشهد البيع والشراء حركة رواج كبيرة في أيام المولد، وتكتظ الأسواق المؤقتة والدائمة في محيط المسجد بالناس، وكذا المقاهي إلى جانبه، كما تنتشر خيام الزوار والمريدين الذين يقيمون بالأيام والليالي.

مولد السيد البدوي

وقبيل الليلة الكبيرة، في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، بعدة ليالي، يبدأ الإعداد لإحياء المولد. يأتي الزوار من كل مكان، ينصبون الخيام حول المسجد وحول ما حوله. بعضها لأصحاب تجمعوا للقربى، غالبيتهم من صعيد مصر، وبعضها تابعة لطرق صوفية.

التقاط الأنفاس بالتومباك الفاخر

بعد عبور تكتل بشري ضخم على مساحة ضيقة نسبيًا، يكون التقاط الأنفاس أفضل الخيارات. في ساحة المسجد يقع مقهى "السادة الأحمدية" الشهير، والذي يرجع عمره لأكثر من 100 عام خلت. ويشتهر بتقديمه "التومباك"، أحد أفخر أنواع المعسّل، والذي لا يقدم عادة في المقاهي المصرية.

يعتبر المقهى جزءًا من ساحة السيد البدوي، ما يجعله مرصدًا مهمًا لرؤية مُقرّبة لمشهد المولد، وتفاصيله: الزوار دخولًا وخروجًا، وأصحاب الحاجة المعوزون، والمجاذيب، والباحثون عن القربى، والباحثون عن تلبية طلب بالتبرك والدعاء، والباعة، والزاهدون، والأغنياء والمتأنفون.

مقهى الأحمدية

 فنجان قهوة، أو كوب شاي، مع أرجيلة تومباك، ورؤية مفصلة لمشهد لا يتكرر في مصر إلا قليلًا، فليس كـ"أبي الفتيان" بين المصريين، وفي تاريخهم الميثولوجي، والمجرب بالنسبة للبعض كما يؤكدون، أو يروون؛ مثل البدوي إلا قلّة من الأولياء والصالحين أصحاب المقامات العليّة.

حبل من وإلى السماء

عادة تقام حفلات للإنشاد الديني والذكر داخل المقام؛ بعض المريدين يتمايلون يمنة ويسرةً وجدًا وطربًا، ويسود اللونان الأخضر والأبيض، وتنتشر السبح المعلقة بين الأصابع أو على الرقاب، وكل قد تملكه الوجد في الأمتار القليلة حول الضريح. 

ومن قلب الإنشاد، يصدح أحدهم: مدد، وآخر: مدد يا جايب الأسرى، برؤوس منخفضة وآخرين جحظت عيناهم إلى السماء وكأنهم تعلقوا بحبل منها إليها.

مولد السيد البدوي

يغيب العقل في هذا المشهد "الروحاني" وهو مطلوب هؤلاء الرواد، الذين يمكن أن يتكشف من وجوه بعضهم أماني تخليص النفس من حمل كل ما هو خارج هذه البقعة: فقر وعوز وحاجة والتهاء في كدّ المعيشة وسعي قد لا يؤتي أكله دائمًا.

الليلة الكبيرة

تزداد مع أيام المولد الأخيرة حلقات الذكر، إلى أن تبلغ ذروتها في الليلة الكبيرة بوجود المنشد والمداح الشهير، ياسين التهامي ونجله محمد، وسط حضور مهيب العدد.

يغيب العقل في المشهد "الروحاني" لمولد البدوي، وهو مطلوب المريدين الذين تتكشف منهم أماني الخلاص من حمل كل ما هو خارج هذه البقعة

بعد انتهاء الليلة الكبيرة، يخف الإيقاع تدريجيًا قبل أن تنفض الجموع، التي تقدر أحيانًا بنحو مليوني زائر، إلى حال سبيلها، ويبقى المسجد الأحمدي لصاحب المقام والحضرة مزارًا لكل طالبِ حاجة أو متبرك، وحتى لمن أراد أن يعرف أكثر عن جزء أصيل من الثقافة الشعبية في مصر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

6 من أبرز الأولياء المغاربة في مصر.. روحانية متصلة بين المشرق والمغرب

الرقص الاعتقادي في مصر.. دروب الخلاص